عن مساوئ صالح وسيئاته كتبنا الكثير إلى الحد الذي اتهمنا أنصاره بالمبالغة في خصومته وإنكار محاسنه.. وكثيرا ما تساءل بعض أنصاره متى تتحدثوا بايجابية عن الرجل وتنظروا إلى الواقع وإلى صالح بدون نظارات سوداء تحجب إنجازاته عنكم؟ فكنا نقول اننا نرى اليمن واليمنيين يعانون الأمرين ولصالح ونظامه الدور الأبرز بصورة مباشرة أو غير مباشرة في هذه المعاناة،وحين نرى خلاف ذلك فلن نتردد لحظة في الحديث أو الكتابة بطريقة مختلفة..
الآن بعد اغتيال الرئيس السابق علي عبدالله صالح ندرك أنه أصبح في ذمة التاريخ بما له وما عليه.
صالح سيظل أحد الرؤساء اليمنيين الذين شغلوا الذاكرة الجمعية عقودا من الزمن،على الأقل آخر عقدين من القرن الماضي وأول عقدين من القرن الحادي والعشرين،لا باعتباره رئيسا حكم اليمن لأطول فترة ممكنة ناهزت ثلث قرن أغلبها قضاها رئيسا لليمن الموحد منذ العام 1990،ولكن بصفته السياسي الذي قاد عددا من التحالفات السياسية والاجتماعية وأحدث تغييرات كثيرة سلبا وايجابا في بنية البلد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
على المستوى الداخلي تمكن من تأمين موقع الرجل الأول في الدولة رغم قدومه إلى الموقع ذاته في أعقاب عمليتي اغتيال داميتين طالتا الرئيسين الذين سبقاه (الحمدي في أكتوبر 1977 والغشمي في يونيو 1978)،كما أعاد بشكل تدريجي مؤسسات الدولة إلى الواجهة بعدما ضمر جسمها وتراجع دورها بسبب ظروف وملابسات متعددة،ومنها مؤسستا الجيش والأمن إضافة إلى البرلمان الذي كان دوره هامشيا وثانويا إبان وصوله إلى السلطة.
أكثر ما يلفت الانتباه في مسيرة صالح قدرته على بناء التحالفات وخبرته في الانفلات منها.. في الجولة الأولى من حكمه تحالف مع الإسلاميين ضد اليساريين،ومع البعثيين ضد الناصريين ومع القبائل ضد الحداثيين ومع العسكر ضد الساسة،وفي مرحلة لاحقة استنسخ يساريين ضد اليسار واسلاميين ضد الاسلاميين وناصريين أقرب إلى قصره وقلبه، وقبائل في مواجهة قبائل أخرى..
شكل صالح من المؤتمر الشعبي قاعدة للكل ومظلة للجميع وشيئا فشيئا غدا المؤتمر نفسه حكرا على أتباع ومؤيديه وأنصاره ومحبيه.
احتوى بعض أبناء الرموز والمناضلين والشهداء لمواجهة رموز ومناضلين وشهداء آخرين كما دعم قوى وتيارات وشخصيات لاستهداف غيرها.
احتمى بالقبيلة وهو لا يكف عن محاربتها.. ودعم الأحزاب دون أن يتوقف عن النيل منها والعمل على تمزيقها،وأنشأ جيشا داخل الجيش وأمنا خارج الأمن ودولة في موازاة دولة أخرى.
على المستوى الخارجي استخدم المناورة في إدارة العلاقات مع الدول والقوى الإقليمية والدولية،وقف مع صدام حسين ضد إيران في حرب الثمان سنوات،وأسهم في تأسيس مجلس التعاون العربي إلى جانب مصر والعراق والمملكة الأردنية في العام 1989،وأعلن مع قادة جنوب اليمن إعادة توحيد البلاد في العام 1990؛ وقع مع (مسقط) و(الرياض) اتفاقيتي ترسيم الحدود،وأعلن مع الخرطوم وأديس ابابا تحالف (تجمع صنعاء).
شهدت اليمن في عهده حرب شطرية (فبراير 1979) أعقبها التوقيع على اتفاقية الكويت التي مهدت الطريق أمام الوحدة اليمنية،وكذلك حروب المناطق الوسطى في محافظات اب وتعز والبيضاء،ثم تأسيس المؤتمر الشعبي العام في أغسطس 1982،وانتخابات المجالس المحلية في 1983 وإعادة بناء سد مأرب التاريخي واستخراج النفط عام 1986،وانتخابات مجلس الشورى (البرلمان) عام 1988.
وكما وقع مع علي سالم البيض على اتفاقية الوحدة اسفر الخلاف بينهما عن اندلاع الأزمة السياسية في العام 1993 والحرب الشاملة في العام 1994،وبانتصاره في الحرب التي أطلق عليها حرب الدفاع عن الوحدة تمكن من بسط سيطرته على كل مناطق اليمن شماله وجنوبه وشرقه وغربه.
احتلت القوات الاريترية جزيرة حنيش الكبرى الواقعة في البحر الأحمر أواخر العام 1995 لكن الجزيرة عادت إلى السيادة اليمنية وفقا لحكم أصدرته المحكمة الدولية فيما بعد.
في العام 2004 نشبت أولى حروب صعدة التي استمرت حتى نهاية العام 2009،بين القوات الحكومية وجماعة الحوثي المسلحة،التي تحالفت لاحقا مع صالح عقب الإطاحة به لتقود انقلابا مسلحا ضد الحكومة الشرعية في العام 2014 قبل شهور من إعلان دول عربية عدة تشكيل التحالف العربي لدعم الشرعية اليمنية وانطلاق عاصفة الحزم لمواجهة الانقلاب الحوثي،وقبل أن تضع حرب استعادة الدولة أوزارها قتل صالح على يد مسلحين حوثيين بعد يومين فقط من إعلانه الانشقاق عن التحالف الانقلابي مع الحوثيين.
في عهده خاضت اليمن لأول مرة التجربة الديمقراطية وفق مبدأ التعددية السياسية عبر انتخابات برلمانية (1993. 1997. 2003)،وكذلك تجربتين في كل من الانتخابات الرئاسية (1999. 2006)،والانتخابات المحلية (2001. 2006)،واستفتاء عام على الدستور لمرتين (1991. 2001).
سلسلة طويلة من الأحداث والمواقف كان صالح عنوانها العريض وفاعلها الأبرز،كسب كثيرا من الأنصار في الداخل والخارج واكتسب أيضا خصوما وخصومات كثيرة.
قال الكثير عن خصومه وقالوا عنه الكثير أيضا،كما قال أنصاره وسيقولون عنه كلاما أكثر وذاكرة اليمنيين ستظل محملة بالكثير عن صالح.. صالح الذي تسلم حكم البلاد وعمره 36 سنة وغادر الحياة عن عمر يزيد عن 75 سنة، قضى معظمه رئيسا لليمن.