الوصايا العشر
في
سورة الأنعام !! قال تعالى :
"قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿١٥١﴾
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّـهِ أَوْفُوا ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿١٥٢﴾
وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴿١٥٣﴾"
سورة الأنعام
وهذه السورة التي أنزلت على المصطفى بمكة – فهي سورة مكية – كرس الحديث فيها عن قضية واحدة لا تتغير ،
لكن الأسلوب في عرضها لا يتكرر ، وهي قضية التوحيد ، قضية العقيدة ، وهي القضية الكبرى ، وهي القاعدة الأساسية لهذا الدين ،
فالعقيدة هي المدخل للإسلام ، وهي محوره والروح التي تسري فيه ،
وقد جاءت هذه العقيدة في سورة موجزة :
"قُلْ هُوَ اللَّـهُ أَحَدٌ ﴿١﴾ اللَّـهُ الصَّمَدُ ﴿٢﴾ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ﴿٣﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴿٤﴾"
فالعقيدة هي القاعدة الأساسية لإقامة هذا البناء العظيم ، وهي الأصل والأساس ، وعبادة الله هي البناء القائم على أساس العقيدة ؛
لأن الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ؛ يترتب عليه الانقياد له فيما اختاره ورضيه ، وفيما أمر به وما نهى عنه .
ولقد مضى على النبي في مكة ثلاثة عشر عاماً كاملة ، في تقرير هذه القضية الكبرى ،
ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة ،
إلا بعد أن علم الله أنها قد استقرت في الأذهان ، واستوفت ما تستحقه من البيان ،
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها ، منذ اليوم الأول للرسالة ،
وأن يبدأ رسول الله أولى خطواته في الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله ،
وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق ويُعَبِّدُهُم له دون سواه ، وأن يرد السلطان كله إلى الله ،
فهو السلطان على الضمائر ، والسلطان على الشعائر ، والسلطان على واقعيات الحياة ،
والسلطان في المال ، والسلطان في القضاء ، والسلطان في الأرواح والأبدان .
ولنأت على ذكر نماذج من سورة الأنعام ، التي عنيت بشأن العقيدة وتركيزها ، والتي تدل على عظمة الله وقدرته وبديع صنعه :
"الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۖ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴿١﴾
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ﴿٢﴾
وَهُوَ اللَّـهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ۖ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ﴿٣﴾"
وقال تعالى :
"وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿١٣﴾
قُلْ أَغَيْرَ اللَّـهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿١٤﴾"
وقال تعالى :
"وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّـهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٧﴾
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿١٨﴾"
وقال تعالى :
"قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴿٦٥﴾"
وقال تعالى :
"إِنَّ اللَّـهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ ۖ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّـهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴿٩٥﴾
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿٩٦﴾
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿٩٧﴾
وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ﴿٩٨﴾"
وقال تعالى :
"ذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمْ ۖ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴿١٠٢﴾
لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴿١٠٣﴾"
والآيات الثلاث التي تضمنت الوصايا العشر ،
حيث ختمت الآية الأولى بقوله تعالى : "ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"،
وختمت الآية الثانية بقوله تعالى : "ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" ،
وختمت الآية الثالثة بقوله تعالى : "ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" .
ولقد جاء التنويه بهذه الآيات وبيان فضلها وسمو منزلتها وعلو قدرها لما روى الحاكم وقال :
صحيح الإسناد عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله :
"أَيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ؟"
ثُمَّ تَلَا :
"قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ..."
"حَتَّى فَرَغَ مِنْ ثَلَاثِ الْآيَاتِ ، ثُمَّ قَالَ :
"وَمَنْ وَفَّى بِهِنَّ ، أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا أَدْرَكَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا كَانَتْ عُقُوبَتَهُ ، وَمَنْ أَخَّرَهُ إِلَى الْآخِرَةِ كَانَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ أَخَذَهُ ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ"
تفسير ابن كثير
وأخرج الحاكم وابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال :
(لما أمر الله تعالى نبيه ۖ أن يعرض نفسه على قبائل العرب قال أبو بكر :
أَوَقَدْ بَلَغَكُمْ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ فَهَا هُوَ ذَا،
فقال مفروق : قَدْ بَلَغَنَا أَنّهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ فَإِلَى مَ تَدْعُو إلَيْهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟
فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
أَدْعُو إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ وَإِلَى أَنْ تُؤْوُونِي ، وَتَنْصُرُونِي ،
فَإِنّ قُرَيْشًا قَدْ ظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللّهِ وَكَذّبَتْ رَسُولَهُ وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنْ الْحَقّ وَاَللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ .
فقال مفروق : وَإِلَى مَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ...} الآية
الأنعام ﴿151﴾
فقال مفروق : وَإِلَى مَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ؟
فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم :
{إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
النحل ﴿٩٠﴾
فقال مفروق : دَعَوْت وَاَللّهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ إلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَاَللّهِ لَقَدْ أَفِكَ قَوْمٌ كَذّبُوك ، وَظَاهَرُوا عَلَيْك،
وكأنه أراد أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة ،
فقال : وَهَذَا هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ شَيْخُنَا ، وَصَاحِبُ دِينِنَا،
فقال هانئ : قَدْ سَمِعْت مَقَالَتَك يَا أَخَا قُرَيْشٍ ، وَإِنّي أَرَى أَنّ تَرْكَنَا دِينَنَا وَاتّبَاعَنَا إيّاكَ عَلَى دِينِك لِمَجْلِسِ جَلَسْته إلَيْنَا لَيْسَ لَهُ أَوّلٌ وَلَا آخِرُ زَلّةٌ فِي الرّأْيِ وَقِلّةُ نَظَرٍ فِي الْعَاقِبَةِ وَإِنّمَا تَكُونُ الزّلّةُ مَعَ الْعَجَلَةِ وَمِنْ وَرَائِنَا قَوْمٌ نَكْرَهُ أَنْ نَعْقِدَ عَلَيْهِمْ عَقْدًا ، وَلَكِنْ تَرْجِعُ وَنَرْجِعُ وَتَنْظُرُ وَنَنْظُرُ)
هذا جانب من فضائل هذه الآيات الثلاث، وذلك هو تأثيرها في النفوس ،
وهذه الآيات أيضاً تمثل نموذجاً فريداً في التربية الحكيمة ، التي يسعد به المجتمع ، ويحي في ظلها الأفراد في أمان واطمئنان ،
ومن يتأمل في هذه الآيات الكريمات ؛ يراها قد رسمت للإنسان علاقته بربه ، علاقة ينال بها السعادة في الدنيا والآخرة ،
ورسمت له علاقته بأسرته بحيث تقوم على المودة والرحمة ،
وسدت في وجهه أبواب الشر التي تؤدي إلى انتهاك حرمات الأنفس والأموال والأعراض ؛
لأن الإسلام يهدف إلى إيجاد جيل يدرك رسالته في هذه الحياة ، إدراكاً واعياً صحيحاً مستنيراً ،
ويؤدي هذه الرسالة بقوة وأمانة ،
يدرك أن لله تعالى عليه حقوقاً فيؤديها بإتقان وإخلاص ،
ويدرك أن لنفسه عليه حقوقاً فيتعهدها بالتهذيب والمحاسبة والتقويم ،
ويدرك أن لمجتمعه عليه حقوقاً ، فيؤدي هذه الحقوق عن رضا وطواعية واختيار ، بأمانة وكفاية ونشاط واستقامة ،
وبذلك تصل الأمم إلى ما تسعى إليه : من عزة ومنعة، ومن غنى وسعادة وأمن واطمئنان .
ومن مفاخر التربية في الإسلام، اتساع دائرتها ، وتنوع مجالاتها ، وسمو توجيهاتها ،
وشمولها لكل جانب من جوانب الحياة الإنسانية.
إنّها تتعهد الإنسان ، سواء كان ذكراً أم أنثى :
بالتقويم والتوجيه ، والتسديد والرعاية ، والترغيب والترهيب ،
منذ خروجه إلى الدنيا إلى أن ينتهي منها ، وتعمل على تسليحه بالفضائل ، وتنفيره من الرذائل .
فهذه الوصايا العشر ، التي يتصدرها أمر الله بالمنع من الشرك ، وتحريمه بصفته الذنب العظيم ، الذي لا يغفر :
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾
النساء : ﴿48﴾
وقوله تعالى :
"إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ"
لقمان ﴿١٣﴾
والشرك لا يصح معه عمل، ولا يستحق المشرك عن عمله الحسن الثواب ، قال تعالى :
"وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا"
الفرقان ﴿2٣﴾