تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :اعتقاد مبني على أسس خاطئة علت به بعض الأصوات المحسوبة على التيار العلماني في مصروتونس، ويستندون فيه واقع حال بعض الدول الإسلامية الآن دون التفريق بين أصول الشريعة الدين الإسلامي وبين الفكر الإسلامي الذي قد يصيب ويخطئ، ونقول الآتي:
أولا: إن من يرى الدول الإسلامية الآن يراها دولا متخلفة في شتى مناحي الحياة، وهذا هو الذي يجعل الكثيرين من غير هذه الدول. تحت تأثير وسائل الإعلام الموجهة لتشويه صورة الشريعة، يتساءلون: لو كانت شريعتهم صالحة حقا لما تخلفوا، وكأننا نطبق هذه الشريعة.. بينما الحقيقة أن الدول الإسلامية في هذا العصر لا تطبق هذه الشريعة أصلا. وهذا هو سبب تخلفنا الحقيقي؛ فليست للشريعة علاقة من بعيد ولا من قريب بما يحدث لنا. وإن كانت ثمة علاقة بين الشريعة وبين ما نحن فيه من تخلف فهي أن الشريعة لا تحكم في حياتنا.
ثانيًا: إن بعض الذين يقومون بتطبيق الشريعة بشكل فعلي يسيئون تطبيقها؛ لأنهم يسيئون فهم الإسلام، ويغالون ويتشددون؛ فيحبسون المرأة ويمنعون تعليمها ويهملون في مظهرهم، ويظنون بذلك أن هذا هو الإسلام ويقدمون أنفسهم على أنهم يمثلون الإسلام، وتستغل بعض وسائل الإعلام هذا، فتنقل إلى العالم هذه الصور على أنها الإسلام الذي يدعوكم المسلمون إليه!
ومن ثَمَّ يحدث النفور من الإسلام ويعتقد الناس أن هذه هي الشريعة التي يريدون تطبيقها عليهم، وأن هذا هو الإسلام الذين يريدون أن يعتنقوه. فهذه هي الأسباب التي تجعل الناس يعتقدون أن الشريعة غير صالحة للحكم، وهي أسباب غير منطقية.. لماذا؟ لأنها تحكم على قوانين بشكل خاطئ، فلو أن لديَّ قانونًا عادلاً فأخذه بعض الناس وطبقه تطبيقا جائرا، أيكون العيب في القانون، أم فيمن ينفذه؟
متى نحكم على قانونٍ ما بأنه صالح أو غير صالح؟ نحكم عليه عندما نجد من يطبق القانون كما هو، وحينئذ نستطيع أن نحكم على هذا القانون، هل هو صالح أم لا.
وأعتقد أن الحكم بصلاحية الشريعة يماثل الحكم بصلاحية دين من الأديان؛ فمثلا إذا وجدنا رجلا مسيحيا مجرما قاتلا، فهل هذا يعطينا الحق في القول: إن المسيحية دين قتل وإجرام؟ بالطبع لا. لماذا؟ لأننا يجب أن نفرق بين المسيحية كدين والمسيحيين كمعتنقين لها؛ لأن منهم من يطبق تعاليمها ومنهم من لا يطبق هذه التعاليم.. ومثل هذا الكلام يقال عن الإسلام؛ فإذا أردنا أن نحكم على دين ما هل هو صالح أم لا، فعلينا ألا نحكم عليه من خلال أتباعه فقط، بل علينا أن ننظر في هذا الدين وفي نصوصه حتى نكون موضوعيين في أحكامنا.
وإذا عُلم ألا رسول بعد محمد [صلى الله عليه وسلم]، فمن الطبيعي جدًا أن يرسَل محمد إلى كل الناس؛ لأنه لا رسول بعده يبلغهم، ومن ثَمَّ فمن الضروري أن تكون رسالته صالحة لكل الأزمان التي تأتي بعده ولكل الأقوام الذين يأتون من بعده.
ومن الأدلة على ذلك: أنه من المعلوم تاريخيًا أن العرب لم تقُم لهم حضارة مرموقة ولم يسمع بهم العالم إلا بعد الإسلام، وقد سادوا العالم في أقل من أربعين عاما بعد وفاة النبي محمد [صلى الله عليه وسلم] ولم يكن هذا إلا في ظل تطبيق شريعة الإسلام، التي تميزت بالشمول والعدل والتسامح والتوازن والتدرج، حتى كان المواطن العادي يستطيع أن يقاضي الخليفة ويأخذ حقه منه، بل ذهب الأمر إلى أبعد من ذلك في قصة القبطي المصري الذي ذهب إلى خليفة المسلمين عمر يشكو إليه ظلم ابن والي مصرالمسلم الصحابي المعروف عمرو بن العاص، فأتى الخليفة عمر بالوالي وابنه وجعل القبطي يقتص من الاثنين.. لم يكن هذا إلا في ظل شريعة الإسلام. من أجل ذلك قال عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] قولته المشهورة: (لقد كنا أذل أمة فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نبتغي العزة في غيره أذلنا الله).
ومن الأدلة أيضًا: استمرار السيادة العالمية على مدار نحو ستة قرون في ظل شريعة الإسلام، فقد حكم بنو أمية من عام 661 ميلادية إلى عام 750 ميلادية وامتدت دولتهم من إسبانيا غربا حتى تخوم الصين شرقا. ثم حكم بنو العباس منذ 750 ميلادية إلى 1258 ميلادية.. كل هذه السنين في ظل شريعة الإسلام، فماذا يعني هذا؟ ألا يعبر هذا عن قوة هذه الشريعة وصلاحيتها للحكم والسيادة في أجيال مختلفة وفي أماكن مختلفة؟ فقد حكم الإسلام أممًا مختلفة في كل شيء، ومع ذلك استطاعت شريعته السمحة أن تجمعهم وتوحدهم جميعًا.
هذا فضلا عن التقدم الاقتصادي والعلمي والمعرفي في ظل الشريعة، فلم يعرف المسلمون طوال تاريخهم تقدمًا في كل مناحي الحياة كما عرفوه في ظل تطبيقهم لشريعة الله التي هي هدى الله القائل: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى) [طه: 123].
كان التقدم الاقتصادي ملحوظا، حتى إنه في عهد عمر بن عبدالعزيز كان يزوِّج من لا يقدر على تكاليف الزواج ويقضي الدين عن المدينين ويفرض لكل مولود راتبًا من بيت مال المسلمين.. وحدث يوما أن لقي عمر بن الخطاب رجلاً شيخًا كبيرًا يتكفف ويسأل الناس، قال: ما شأنك يا رجل؟ قال: أنا رجل من أهل الجزية (الضريبة) عجزت عنها؛ فأنا أسأل الناس لأجمعها. فقال له عمر: والله ما أنصفناك إن أكلنا شبابك ثم أضعنا كبرك وشيخوختك. ثم أسقط عنه الجزية، بل وأمر له بعطاء من بيت المال.
وفي الناحية العلمية لم يبزغ نجم الحسن بن الهيثم ولا الفارابي ولا ابن سينا ولا البيروني ولا جابر بن حيان ولا الخوارزمي ولا الجبرتي وغيرهم من الأفذاذ الذين أخذ الغرب عنهم حضارته.. لم يبزغ نجم هؤلاء جميعًا إلا في ظل تطبيق شريعة الإسلام. أفلا يدل ذلك على صلاحية هذه الشريعة لقيادة العالم إلى الخروج من محنته الحالية؟