ما أتعس الرجل الذي يحب صبية بين الصبايا و يتخذها رفيقة لحياته ، ويُهرق على قدميها عرق جبينه و دم قلبه ، ويضع بين كفيها ثمار أتعابه و غلة اجتهاده ، ثم ينتبه فجأة فيجد قلبها الذي حاول ابتياعه بمجاهدة الأيام وسهر الليالي قد أعطي مجانا لرجل آخر ليتمتع بمكنوناته و يسعد بسرائر محبته
وما أتعس المرأة التي تستيقض من غفلة الشبيبة فتجد ذاتها في منزل رجل يغمرها بأمواله وعطاياه ويسربلها بالتكريم والمؤانسة لكنه لا يقدر أن يلامس قلبها بشعلة الحب المحيية ولا يستطيع أن يشبع روحها من الخمرة السماوية التي يسكبها الله من عيني الرجل في قلب المرأة.
عرفت رشيد بك نعمان منذ حداثتي . وهورجل لبناني الأصل بيروتي المولد والدار منحدر من أسرة قديمة غنية موصوفة بالمحافظة على ذكر الأمجاد الغابرة ، فكان مولعا بسرد الحوادث التي تبين نبالة آبائه وجدوده متبعا بمعيشته عقائدهم و تقاليدهم منصرفا الى تقليدهم في العادات و الأزياء الغريبة المرفرفة كأسراب الطيور في فضاء الشرق
وكان رشيد بك طيب القلب كريم الأخلاق لكنه كالكثيرين من سكان سوريا لا ينظر الى ما وراء الأشياء بل الظاهر منها .ولا يصغي الى نغمة نفسه بل يشغل عواطفه باستماع الأصوات التي يحدثها محيطه ، ويلهي أمياله ببهرجة المرئيات التي تعمي البصيرة عن أسرار الحياة و تحول النفس عن إدراك خفايا الكيان الى ملاحظة الملذات الوقتية وكان من أولئك الرجال الذين يتسرعون بإظهار محبتهم أو مقتهم للناس وللأشياء ثم يندمون على تسرعهم بعد فوات الوقت عندما تصير الندامة مجلبة للسخرية والإستهزاء بدلا من العفو و الغفران
هذه هي الصفات و الاخلاق التي جعلت رشيد بك نعمان يقترن بالسيدة وردة الهاني قبل أن تضم نفسها نفسه في ظل المحبة الحقيقية التي تجعل الحياة الزوجية نعيما
غبت عن بيروت بضعة أعوام و لما رجعت إليها ذهبت لزيارة رشيد فوجدته ضعيف الجسد مكمدَّ اللون تتمايل على سحنته المنقبضة أشباح الأحزان وتنبعث من عينيه الحزينتين نظرات موجعة تتكلم بالسكينة عن انسحاق قلبه و ظلمة صدره . و بُعيد أن بحثت في محيطه و لم أجد أسباب نحوله وانقباضه سألته قائلا : ( ماذا أصابك أيها الرجل و أين تلك البشاشة التي كانت تنبعث كالشعاع من وجهك . وأين ذهب ذلك السرور الذي كان ملاصقا شبيبتك ؟ هل فصل الموت بينك وبين صديق عزيز .أم سلبتك الليالي السوداء مالا جمعته في الأيام البيضاء ؟ قل لي بحق الصداقة ما هذه الكآبة المعانقة نفسك وهذا النحول المالك جسدك)
فنظر الي نظرة متأسف أرته الذكرى رسوم أيام جميلة ثم حجبتها . وبصوت تتموج في مقاطعه معاني اليأس والقنوط قال : ( إذا فقد المرء صديقا عزيزا والتفت حوله يجد الأصدقاء الكثيرين فيتصبر ويتعزى ، وإذا خسر الانسان مالا وفكر قليلا رأى النشاط الذي أتى بالمال سيأتي بمثله فينسى ويسلو . ولكن إذا أضاع الرجل راحة قلبه فأين يجدها وبم يستعيض عنها ؟
يمد الموت يده ويصفعك بشدة فتتوجع ولكن لا يمر يوم وليلة حتى تشعر بملامس أصابع الحياة فتبتسم وتفرح. يجيئك الدهر على حين غفلة ويحدق بك بأعين مستديرة مخيفة ويقبض على عنقك بأضافر محددة ويطرحك بقساوة على التراب ويدوسك بأقدامه الحديدية و يذهب ظاحكا ثم لا يلبث أن يعود إليك نادما مستغفرا فينتشلك بأكفه الحريرية و يغني لك نشيد الأمل فينزل بك مصائب كثيرة ومتاعب أليمة تأتيك مع خيالات الليل تضمحل أمامك بمجيئ الصباح وأنت شاعر بعزيمتك متمسك بآمالك.
ولكن إذا كان نصيبك من الوجود طائر تحبه وتطعمه حبات قلبك وتسقيه نور أحداقك وتجعل ضلوعك له قفصا ومهجتك عشا . وبينما أنت تنظر إلى طائرك وتغمر ريشه بشعاع نفسك إذ به قد فر من بين يدك وطار حتى حلق السحاب ثم هبط نحو قفص آخر وما من سبيل الى رجوعه فماذا تفعل إذ ذاك أيها الرجل ، قل لي ماذا تفعل وأين تجد الصبر والسلوان وكيف تحيي الآمال والأماني ؟ )
لفظ رشيد بك الكلمات الاخيرة بصوت مخنوق متوجع ووقف على أقدامه مرتجفا كقصبة في مهب الريح ومد يديه الى الامام كأنه يريد أن يقبض بأصابعه المعوجة على شيء ليمزقه لإربا إربا و قد تصاعد الدم الى وجهه وصبغ بشرته المتجعدة بلون قاتم وكبرت عيناه وجمدت أجفانه وأحدق دقيقة كأنه رأى أمامه عفريتا قد انبثق من العدم وجاء لميته. ثم نظر الى وقد تغيرت ملامحه بسرعة وتحول الغضب والحنق في جسده المهزول الى التوجع والألم وقال باكيا :
(( هي المرأة - المراة التي أنقدتها من عبودية الفقر وفتحت أمامها خزائني وجعلتها محسودة بين النساء على الملابس الجميلة والحلي الثمينة والمركبات الفخمة والخيول المطهمة-المراة التي أحبها قلبي وسكب على أقدامها عواطفه ومالت إليها نفسي فغمرتها بالمواهب والعطايا - المرأة التي كنت لها صديقا ودودا ورفيقا مخلصا وزوجا أمينا قد خانتني وغادرتني وذهبت الى بيت رجل آخر لتعيش معه في ظلال الفقر وتشاركه بأكل الخبز المعجون بالعار وشرب الماء الممزوج بالذل والعيب-المرأة التي أحببتها - الطائر الجميل الذي أطعمته حبات قلبي و أسقيته نور أحداقي وجعلت ضلوعي قفصا ومهجتي عشا قد فر من بين يدي وطار الى قفص آخر محبوك من قضبان العوسج لياكل فيه الحسك والديدان ويشرب من جوانبه السم والعلقم-الملاك الطاهر الذي أسكنته فردوس محبتي وانعطافي قد انقلب شيطانا مخيفا وهبط الى الظلمة ليتعذب بآثامه ويعذبني بجريمته))
وسكت الرجل وقد حجب وجهه بكفيه كأنه يريد أن يحمي نفسه من نفسه ثم تنهد قائلا (( هذا كل ما أقدر أن أقوله فلا تسألني أكثر من ذلك ولا تجعل لمصيبتي صوتا صارخا بل دعها مصيبة خرساء لعلها تنمو بالسكينة فتميتني وتريحني))
فقمت من مكاني والدموع تراود أجفاني والشفقة تسحق قلبي. ثم ودعته ساكتا لانني لم أجد في الكلام معنى يعزي قلبه الجريح ولا في الحكمة شعلة تنير نفسه المظلمة.
بعد أيام التقيت لأول مرة بالسيدة وردة الهاني في بيت حقير محاط بالزهور والاشجار .وكانت قد سمعت لفظ اسمي في منزل رشيد بك نعمان ، ذلك الرجل الذي داست قلبه وتركته ميتا بين حوافر الحياة. ولما رأيت عيناها المنيرتين وسمعت نغمة صوتها الرخيمة قلت في ذاتي ((أتقدر هذه المراة ان تكون شريرة ؟ وهل بإمكان هذا الوجه الشفاف أن يستر نفسا شنيعة وقلبا مجرما ؟ أهذه هي الزوجة الخائنة؟ أهذه هي المرأة التي جنيت عليها مرات عديدة بتصويرها لفكري كثعبان مخيف مختبئ في جسم طائر بديع الشكل؟))ولكنني رجعت وهمست في سري قائلا (( إذا لم يكن هذا الوجه الجميل؟ أوَلم نسمع ونرَ أن المحاسن الظاهرة كانت سببا لمصائب خفية هائلة وأحزان عميقة أليمة ؟ أوليس القمر الذي يسكب في قرائح الشعر شعاعا هو القمر الذي يهيج سكينة البحار بالمد والجزر))
جلستُ وجلستْ السيدة وردة وكأنها قد سمعتني مفتكرا فلم ترد أن يطول الصراع بين حيرتي وظنوني، فأسندت رأسها الجميل بيدها البيضاء وبصوت يحاكي نغمة الناي رقة قالت : ((لم ألتقي بك قبل الآن أيها الرجل ولكني سمعت صدى أفكارك وأحلامك من أفواه الناس فعرفتك شفوقا على المراة المظلومة ، رؤوفا بضعفها ، خبيرا بعواطفها وميولها.من أجل ذلك أريد أن أبسط لك قلبي وأفتح أمامك صدري لترى مخبآته وتخبر الناس إن شئت بأن وردة الهاني لم تكن قط امرأةخائنة شريرة ..
كنت في الثامنة عشر من عمري عندما قادني القدر الى رشيد بك نعمان وكان هو إذ ذاك قريبا من الأربعين فشغف بي ومال إلي ميلا شريفا كما يقول الناس ، ثم جعلني زوجة له وسيدة في منزله الفخم بين خدامه الكثيرين.فألبسني الحرير وزين رأسي وعنقي ومعصمي بالجواهر والحجارة الكريمة وكان يعرضني كتحفة غريبة في منازل أصدقائه ومعارفه ويبتسم ابتسامة الفوز والإنتصار عند ما يرى عيون أترابه ناظرة إليّ بإعجاب و استحسان ويرفه رأسه تيها وافتخارا اذ يسمع نساء أصحابه يتكلمن عني بالإطراء والمودة . لكنه لم يكن يسمع قول السائل ( أهذه زوجة رشيد بك أم صبية تبناها) و قول الآخر لو تزوج رشيد بك في زمن الشباب لكان بِكره أكبر سنا من وردة الهاني )
جرى كل ذلك قبل ان تستيقظ حياتي من سبات الحداثة العميق وقبل أن توقد الالهة شعلة المحبة في قلبي وقبل أن تنبت بذور العواطف و الاميال في صدري . نعم جرى كل ذلك عندما كنت احسب منتهى السعادة في ثوب جميل يزين قامتي ومركبة فخمة تجرني ورياش ثمينة تحيط بي ولكن عندما استيقظت - عندما استيقظت وفتح النور أجفاني وشعرت بألسنة النار المقدسة تلسع أضلعي وتحرقها - وبالمجاعة الروحية تقبض على نفسي فتوجعها - عندما استيقظت ورأيت أجنحتي تتحرك يمينا وشمالا وتريد النهوض بي الى سماء المحبة ثم ترتجف وترتخي عجزا بجانب سلاسل الشريعة التي قيدت جسدي قبل ان أعرف كنه تلك القيود ومفاد تلك الشريعة - عندما استيقظت وشعرت بهذه الأشياء عرفت بأن سعادة المرأة ليست بمجد الرجل وسؤدده ، ولا بكرمه وحلمه ، بل بالحب الذي يضم روحها الى روحه ويسكب عواطفها في كبده ويجعلها ويجعله عضوا واحدا من جسم الحياة وكلمة واحدة على شفتي الله . عندما بانت هذه الحقيقة الجارحة لبصيرتي رأيتني في منزل رشيد عمان مثل لص سارق يأكل خبزه ثم يستتر بظلام الليل . وعرفت أن كل يوم أصرفه بقربه هو كذبة هائلة يخطها الرياء بأحرف نارية ظاهرة على جبهتي أمام الأرض و السماء ، لأنني لم أقدر أن أهبه محبة قلبي لقاء كرمه ولا أن أمنحه انعطاف نفسي ثمنا لإخلاصه وصلاحه. وقد حاولت وباطلا حاولت أن أتعلم محبته فلم أتعلم ، لان المحبة هي قوة تبتدع قلوبنا ، وقلوبنا لا تقدر أن تبتدعها . ثم صليت وتضرعت وباطلا تضرعت وصليت في سكينة الليالي أمام السماء لتولّد في أعماقي عاطفة روحية تقربني من الرجل الذي اختارته رفيقا لي ، فلم تفعل السماء لأن المحبة تهبط على أرواحنا بايعاز من الله لا بطلب من البشر.
وهكذا بقيت عامين كاملين في منزل ذلك الرجل أحسد عصافير الحقل على حريتها. وبنات جنسي يحسدنني عي سجني . و كالثكلى الفاقدة وحيدها كنت أندب قلبي الذي ولد بالمعرفة واعتل بالشريعة وكان يموت في كل يوم جوعا وعطشا . ففي يوم من تلك الأيام السوداء نظرت من وراء الظلمة فرأيت شعاعا لطيفا ينسكب من عيني فتى يسير وحده على سبل الحياة ، ويعيش منفردا بين أوراقه وكتبه في هذا البيت الحقير .فأغمضت عيني كيلا أرى ذلك الشعاع وقلت لنفسي ( نصيبك يا نفس ظلمة القبر فلا تطمعي بالنور) ثم أصغيت فسمعت نغمة علوية تهز جوارحي بعذوبتها وتمتلك كُليتي بطهرها فأغلقت أذني وقلت : (نصيبك يا نفس صراخ الهاوية فلا تطمعي بالأغاني..) أغمضت أجفاني كيلا أرى و أغلقت أذني كيلا أسمع . لكن عيني ظلتا تريان ذلك الشعاع وهما مطبقتان و أذني تسمعان تلك النغمة وهما مغلقتان فخفت لاول وهلة خوف فقير وجد جوهرة بقرب قصر الأمير فلم يجسر ان يلتقطها لخوفه ولم يقدر أن يتركها لفاقته. وبكيت بكاء ظامئ رأى الينبوع العذب محاطا بكواسر الغاب فارتمى على الأرض مترقبا جازعا))
وسكتت السيدة وردة دقيقة وقد أغمضت عيناها الكبيرتين كأن ذلك الماضي قد انتصبت أمامها فلم تجسر أن تحدق بي وجها لوجه . ثم عادت وقالت: (( هؤلاء البشر الذين يجيئون من الأبدية ويعودون إليها قبل أن يذوقو طعم الحياة الحقيقية لا يمكنهم أن يدركو كنه أوجاع المراة عندما تقف نفسها بين رجل تحبه بإرادة السماء ، ورجل تلتصق به بشريعة الأرض. هي مأساة أليمة بدماء الأنثى ودموعها يقرأها الرجل ضاحكا لأنه لا يفهمها وإن فهمها انقلب ضحكه فجورا وقساوة وأنزل على رأس المرأة من غضبه نارا وكبيرتا وملأ أذنيها لعنة وتجديفا .هي رواية موجعة تمثلها الليالي السوداء بين ضلوع كل امراة تجد جسدها مقيدا بمضجع رجل عرفته قبل أن تعرف ما هي الزيجة. وترى روحها مرفرفة حول آخر تحبه بكل ما في الروح من المحبة و بكل ما في المحبة من الطهر والجمال.
هو نزاع مخيف قد ابتدأ منذ ظهور الضعف في المرأة و القوة في الرجل ولا ينتهي حتى تنقضي أيام عبودية الضعف للقوة . هي حرب هائلة بين شرائع الناس الفاسدة وعواطف القلب المقدسة قد طُرحتُ بالأمس في ساحتها وكدتُ أموتُ جزعا و أذوب دموعا . لكنني وقفت و نزعت عني جبانة بنات جنسي وحللت جناحيّ من ربط الضعف والاستسلام وطرت في فضاء الحب والحرية و انا سعيدة الآن بقرب الرجل الذي خرج وخرجت شعلة واحدة من يد الله قبيل ابتداء الدهور ، ولا تستطيع قوة في العالم أن تسلبني سعادتي لأنها منبثقة من عناق روحين يضمهما التفاهم ويظللهما الحب )
ونظرت إلي السيدة وردة نظرة معنوية كأنها تريد أن تخترق صدري بعينيها لترى تاثير كلامها في عواطفي وتسمع صدى صوتها بين ضلوعي . لكنني بقيت صامتا كيلا اوقفها عن الكلام.
فقالت وقد قارن صوتها بين مرارة الذكرى وحلاوة الخلاص والحرية ( يقول لك الناس أن وردة الهاني امرأة خائنة جحودة قد اتبعت شهوة قلبها وهجرت الرجل الذي رفعها إليه وجعلها سيدة في منزله . ويقولون لك هي زانية عاهرة قد أتلفت بمقابضها القذرة إكليل الزواج المقدس الذي ضفرته الديانة و اتخذت عوضا عنه إكليلا وسخا محبوكا من أشواك الجحيم وألقت عن جسدها ثوب الفضيلة وارتدت بلباس الإثم والعار.
ويقولون لك أكثر من ذلك لأن أشباح جدودهم مازالت حية في أجسادهم فهم مثل كهوف الاودية الخالية يُرجعون صدى أصوات و لا يفهمون معناها.هم لا يعرفون شريعة الله في مخلوقاته، ولا يفقهون مفاد الدين الحقيقي ، ولا يعلمون متى يكون الإنسان خاطئا أو بارا ، بل ينظرون بأعينهم الضئيلة الى ظواهر الأعمال ولا يرون أسرارها فيقضون بالجهل ويدينون بالعماوة ويستوي أمامهم المجرم والبريء ، والصالح والشرير . فويل لمن يقضي وويل لمن يدين...أنا كنت زانية وخائنة في منزل رشيد نعمان لأنه جعلني رفيقة مضجعة بحكم العادات والتقاليد قبل ان تصيرني السماء قرينة له بشريعة الروح و العواطف . وكنت دنسة ودنيئة أمام نفسي و امام الله عندما كنت أشبع جوفي من خيراته ليشبع أمياله من جسدي . اما اللآن فصرت طاهرة نقية لان ناموس الحب قد حررني . وصرت شريفة وأمينة لأنني أبطلت بيع جسدي بالخبز وأيامي بالملابس.نعم كنت زانية ومجرمة عندما كان الناس يحسبوني زوجة فاضلة واليوم صرت طاهرة وشريفة وهم يحسبونني عاهرة و دنسة لأنهم يحكمون على النفوس من مآتي الأجسادويقيسون الروح بمقاييس المادة))
والتفتت السيدة وردة نحو النافذة و أشارت بيمينها نحو المدينة ورفعت صوتها عن ذي قبل وقالت بلهجة الاحتقار والاشمئزازكأنها رأت بين الأزقة وعلى السطوح وفي الاروقة أشباح المفاسد وخيالات الانحطاط (( انظر الى هذه المنازل الجميلة والقصور الفخمة العالية حيث يسكن الاغنياء والاقوياء من البشر .بين جدرانها المكسوة بالحرير المنسوج تقطن الخيانة بجانب الرياء ، وتحت سقوفها المطلية بالذهب المذوب يقيم الكذب بقرب التصنع . انظر وتامل جيدا بهذه البنايات التي تمثل لك المجد و السؤدد . والسعادة فهي ليست سوى مغائر يختبئ فيها الذل والشقاء والتعاسة . هي قبور مكلسة يتوارى فيها مكر المراة الضعيفة وراء كحل العيون واحمرار الشفاه وتنحجب في زواياها انانية الرجل وحيوانيته بلمعان الفظة والذهب.
هي قصور تتشامخ جدرانها تيها وافتخارا نحو العلاء ولو كانت تشعر بانفاس المكاره والغش السائلة عليها لتشققت وتبعثرت وهبطت الى الحضيض . هي منازل ينظر إليها القروي الفقير باعين دامعة ولو علم أنه لا يوجد في قلوب سكانها ذرة من تلك المحبة العذبة التي تملأ صدر رفيقته لابتسم مستهزئا وعاد الى حقله مشفقا))
وأمسكت السيدة وردة بيدي وقادتني الى جانب النافذة التي كانت تنظر منها نحو تلك المنازل والقصور وقالت (( تعال فاريك خفايا هؤلاء الناس الذين لم أرض أن أكون مثلهم . انظر الى ذلك القصر ذي الاعمدة الرخامية و الجوانح النحاسية و النوافذ البلورية ففيه يسكن رجل غني ورث ماله عن والده البخيل واكتسب أخلاقه من جوانب الأزقة المفعمة بالمفاسد . وقد تزوج منذ عامين بامراة لم يعرف عنها شيئا سوى أن لوالدها شرفا مرورثا ومنزلة رفيعة بين نبلاء البلاد . ولم ينقض شهر العسل حتى ملها متضجرا وعاد الى مسامرة بنات الهوى وتركها في هذا القصر مثلما يترك السكير جرة خمر فارغة فبكت وتوجعت لاول وهلة ثم تصبرت وسلت سلو من عرف خطأه وعلمت بأن دموعها هي أثمن من أن تهرق على خسارة رجل مثل زوجها . وهي الآن مشغوله عن كل شيء بعشق فتى جميل الوجه حلو الحديث تسكب في راحتيه عواطف قلبها و تملأ جيوبه من ذهب بعلها الذي يغض الطرف عنها لأنها تغض الطرف عنه...
ثم انظر الى ذلك البيت المحاط بالحديقة الغناء فهو مسكن رجل ينتمي الى أسرة شريفة حكمت البلاد مدة طويلة وقد انخفظ مقامها اليوم بتوزيع ثروتها وانصرف أبنائها الى الثواني والكسل وقد اقترن هذا الرجل منذ اعوام بفتاة قبيحة الصورة لكنها غنية جدا وبعداستيلائه على ثروتها الطائلة نسي وجودها واتخد له خليلة حسناء وغادرها تهش أصابعها ندما وتذوب شوقا وحنينا.وهي الآن تصرف الساعات بتجعيد شعرها وتكحيل عينها وتلوين وجهها بالمساحيق والعقاقير وتزين قامتها بالأطالس والحرير لعلها تحضى بنظرةمن أحد زائريها لكنها لا تحصل إلا على نظرات شبحها في المرآة ... ثم انظر الى ذلك المنزل الكبير المزين بالنقوش و التماثيل فهو منزل امراة جميلة الوجه خبيثة النفس قد مات زوجها الاول فاستأثرت بامواله واملاكه ثم اختارت من بين الرجال رجلا ضعيف الجسم والإرادة بعلا لتحتمي باسمه من ألسنة الناس وتدافع بوجوده عن منكراتها . وهي الآن بين مريديها كالنحلة تمتص من الزهور ما كان حلوا لذيذا . وانظر الى تلك الدار ذات الأروقة الوسيعة والقناطر البديعة فهي مسكن رجل مادي الأميال كثير المشاغل والمطامع ولو زوجة كل ما في جسدها جميل وحسن وكل ما في روحها حلو ولطيف وقد تمازجت في شخصها عناصر النفس بدقائق الجسد مثلما تتآلف في الشعر نغمة الوزن برقة المعاني فهي قد كونت لتعيش الحب وتموت به. لكنها كالكثيرات من بنات جنسها قد جني عليها والدها قبل بلوغها الثامنة عشرة من عمرها ووضع عنقها تحت نير الزيجة الفاسدة . وهي الآن سقيمة الجسم تذوب كالشمعة بحرارة عواطفها المقيدة .
وتضمحل على مهل كالرائحة الزكية أمام العاصفة ، وتفنى حبا بشيء جميل تشعر به ولاتراه وتصبو حنينا الى معانقة الموت لتتخلص من حياتها الجامدة وتتحرر من عبودية رجل يصرف الأيام بجمع الدنانير والليالي بعدها ويصر أسنانه مجدفا على الساعاة التي تزوج فيها بامرأة عاقرا لا تلد له ابنا ليحيي اسمه ويرث ماله وخيراته...
ثم انظر الى ذلك البيت المنفرد بين البساتين فهو مسكن شاعر خيالي سامي الأفكار روحي المذهب له زوجة غليظة العقل خشنة الطباع تسخر بأشعاره لأنها لا تفهمها وتستهزئ بأعماله لأنها غريبة وهو الآن مشغول عنها بمحبة امراة أخرى متزوجة تتوقد ذكاء وتسيل رقة وتولد في قلبه النور بانعطافها وتوحي إليه الأقوال الخالدة بابتساماتها ونظراتها
وسكتت السيدة وردة هنيهة وقد جلست على مقعد بجانب النافذة كأنها نفسها قد تعبت من التجول في مخادع تلك المنازل الخلفية ثم عادت تقول بهدوء : هذه القصور التي لم أرض أن أكون من سكانها . هذه هي القبور التي لم أرد أن أدفن حية طي لحودها. هؤلاء هم الناس الذين تخلصت من عوائدهم وخلعت عني نير جامعتهم هؤلاء هم المتزوجون الذين يقترنون بالأجساد ويتنافرون بالروح ولا شفيع بهم أمام الله سوى جهلهم ناموس الله.
أنا لا أدينهم الآن بل أشفق عليهم ولا أكرههم بل أكره استسلامهم عفوا الى الرياء والكذب والخباثة . ولم أكشف أمامك خفايا قلوبهم وأسرار معيشتهم لأنني لا أحب الإغتياب والنميمة بل فعلت ذلك لأريك حقيقة قوم كنت بالامس مثلهم فنجوت.
وأبين لك معيشة بشر يقولون عني كل كلمة شريرة لانني خسرت صداقتهم لأربح نفسي وخرجت عن سبل خداعهم المظلمة وحولت عيني نحو النور حيث الإخلاص والحق والعدل
وقد نفوني الآن من جامعتهم وانا راضية لأن البشر لا ينفون إلا من تمردت روحه الكبيرة على الظلم والجور
ومن لا يؤثر النفي على الاستبعاد لا يكون حرا بما في الحرية من الحق والواجب ، انا كنت بالأمس مثل مائدة شهية وكان رشيد بك يقترب مني عندما يشعر بحاجة الى الطعام أما نفسانا فتضلان بعيدتين كخادمين ذليلين.
ولما رأيت المعرفة كرهت الاستخدام وقد حاولت الخضوع لما يدعونه نصيبا فلم أقدر لان روحي أبت ان أصرف العمر كله راكعة أمام صنم مخيف اقامته الأجيال المظلمة ودعته الشريعة.
فكسرت قيودي لكنني لم ألقها عني حتى سمعت الحب مناديا ورأيت النفس متاهبة للمسير ـ فخرجت من منزل نعمان خروج الأسير من سجنه تاركة خلفي الحلى والحلل والخدم والمركبات وجئت بيت حبيبي الخالي من الرياش المملوء من الروح وأنا عالمة بأنني لم أفعل غير الحق والواجب لان مشيئة السماء ليست بان أقطع جناحي بيدي وأرتمي على الرماد حاجبة رأسي بساعدي ساكبة حشاشتي من أجفاني قائلة هذا نصيبي
من الحياة .
إن السماء لا تريد أن أصرف العمر صارخة متوجعة في الليالي قائلة متى يجيئ الفجر وعندما يجيئ الفجر أقول متى ينقضي هذا النهار
إن السماء لا تريد أن يكون الإنسان تعسا لأنها وضعت في أعماقه الميل الى السعادة لأنه بسعادة الانسان يتمجد الله..
هذه هي حكايتي أيها الرجل وهذا احتجاجي أمام السماء و الأرض وأنا أردده وأترنم به والناس
ون آذانهم ولا يسمعون لأنهم يخشون ثورة أرواحهم ويخافون أن تتزعزع أسس جامعتهم وتهبط على رؤوسهم . هذه هي العقبة التي سرت عليها حتى بلغت قمة سعادتي ولو جاء الموت واختطفتني الآن لوقفت روحي أمام العرش الاعلى بلا خوف ولا وجل بل بفرح وأمل وانحلت لفائف ضميري أمام الديان الأعظم وبانت نقية كالثلج لانني لم أفعل غير مشيئة النفس التي فصلها الله عن ذاته ولم اتبع غير نداء القلب وصدى أغاني الملائكة.
هذه هي روايتي التي يحسبها سكان بيروت لعنة في فم الحياة وعلة في جسم الهيئة الإجتماعية ولكنهم سوف يندمون عنه ما تنبه الأيام محبة المحبة في قلوبهم المظلمة مثلما تستنبث الشمس الزهور من بطن الأرض المملوء من بقايا الأموات قيقف إذ ذاك عابر الطريق بجانب قبري ويلقي السلام قائلا هنا رقدت وردة الهاني التي حررت عواطفها من عبودية الشرائع البشرية الفاسدة لتحيا بناموس المحبة الشريفة و حولت وجهها نحو الشمس كيلا ترى ظل جسدها بين الجماجم والأشواك ))
ولم تنته السيدة وردة من كلامها حتى فُتح الباب ودخل علينا فتى نحيل القوام جميل الوجه تنسكب من عينيه أشعة سحرية وتسيل على شفتيه ابتسامة لطيفة، فوقفت السيدة وردة وأمسكت بذراعه بانعطاف كلي وقدمته إلي بعد أن لفظت اسمي مذيلا بكلمة لطيفة وإسمه مشفوعا بنظرة معنوية فعرفت بأنه ذلك الشاب التي أنكرت العالم وخالفت الشرائع والتقاليد من أجله . ثم جلسنا جميعا صامتين لا نشغال كل منا بمعرفة رأي الآخر فيه حتى إذا مرت دقيقة مملوءة من السكينة التي تستميل النفوس إلى الملأ الأعلى نظرت إليهما وقد جلسا أحدهما بجانب الآخر فرأيت ما لم أره قط وعرفت بلحظة معنى حكاية السيدة وردة و أدركت سرا احتجاجها على الهيئة الاجتماعية التي تظطهد الافراد المتمردين على شرائعها قبل أن تستفحص دواعي تمردهم. رأيت روحا واحدة سماوية متمثلة أمامي بجسدسن يجملهما الشباب ويسربلهما الأتحاد وقد وقف بينهما إله الحب باسطا جناحيه ليحميهما من لوم الناس وتعنيفهم. وجدت التفاهم الكلي منبعثا من وجهين شفافين ينيرهما الإخلاص ويحيط بهما الطهر: وجدت لأول مرة في حياتي طيف السعادة منتصبا بين رجل وامرأة يرذلهما الدين وتنبذهما الشريعة.
وبعد هنيهة وقفت وودعتهما مظهرا بغير الكلام تأثيرات نفسي وخرجت من ذلك المنزل الحقير الذي جعلته العواطف هيكلا للحب والوفاق وسرت بين تلك القصور و المنازل التي أظهرت لي خفايا السيدة وردة مفكرا بحديثها و بكل ما ينطوي تحته من المبادئ والنتائج.
لكنني لم أبلغ أطراف ذلك الحي حتى تذكرت رشيد بك نعمان فتمثلت لبصيرتي لوعة قنوطه وشقائه. فقلت في ذاتي ( هو تعس مظلوم ولكن هل تسمعه السماء إذا وقف أمامها متظلما شاكيا وردة الهاني ؟ هل جنت عليه تلك المرأة عندما تركته واتبعت حرية نفسها أم هو الذي جنى عليها عندما أخضع جسدها بالزواج قبل أن يستميل روحها بالمحبة ؟ فمن هو الظالم من الإثنين ومن هو المظلوم؟ ومن هو المجرم ومن هو البريئ يا ترى ؟ )
ثم عدت قائلا لذاتي مستفتيا أخبار الأيام مستقصيا حوادثها كثيرا ما أباح الغرور للنساء أن يتركن رجالهن الفقراء ويتعلقن بالرجال الأغنياء لأن شغف المرأة ببهرجة الملابس ونعومة العيش يعمي بصيرتها ويقودها الى العار والانحطاط. فهل كانت وردة الهاني مغرورة وطامعة عندما خرجت من قصر رجل غني مفعم بالحلي والحلل والريش والخدم وذهبت الى كوخ رجل فقير لا يوجد سوى صف من الكتب القديمة؟ وكثيرا ما يميت الجهل شرف المراة ويحيي شهواتها فتترك بعلها مللا وضجرا وتطلب ملذات جسدها بقرب رجل أكثر منها انحطاطا وأقل شرفا. فهل كانت وردة الهاني جاهلة راغبة بالملذات الجسدية عندما أعلنت استقلالها على رؤوس الأشهاد وانضمت الى فتى روحي الأميال.
وقد كان بإمكانها أن تشبع حواسها سرا في منزل زوجها من هيام الفتيان الذين يستميتون ليكونو..عبيد جمالها وشهداء غرامها ؟ وردة الهاني كانت امرأة تعسة فطلبت السعادة فوجدتها وعانقتها وهذه هي الحقيقة التي تحتقرها الجامعة الإنسانية وتنفيها الشريعة.
همستُ تلك الكلمات في مسامع الأثير ثم قلت مستدركا ولكن أيسوغ للمرأة أن تشتري سعادتها بتعاسة بعلها ؟ فأجابتني نفسي قائلة وهل يجوز للرجل أن يستعبد عواطف زوجته ليبقى سعيدا ؟
وظللت سائرا وصوت السيدة وردة يتموج في مسامعي حتى بلغت أطراف المدينة والشمس قد مالت الى الغروب وابتدأت الحقول والبساتين تتشح بنقاب السكينة والراحة والطيور تنشد صلاة المساء فوقفت متأملا ثم تنهدت قائلا أمام عرش الحرية تفرح هذه الاشجار بمداعبة النسيم وأمام هيبتها تبتهج بشعاع الشمس و القمر.. على مسامع الحرية تتناجى هذه العصافير وحول أذيالها ترفرف بقرب السواقي. في فضاء الحرية تسكب هذه الزهور عطر أنفاسها وامام عينها تبتسم لمجئ الصباح.. كل ما في الأرض يحيا بناموس طبيعته ومن طبيعة ناموسه يستمد مجد الحرية وأفراحها...
أما البشر فمحرومون من هذه النعمة لانهم وضعو لأرواحهم الإلهية شريعة عالمية محدودة. وسنو لأجسادهم ونفوسهم قانونا واحدا قاسيا واقامو لميولهم. وعواطفهم سجنا ضيقا مخيفا, وحفروا لقلوبهم وعقولهم قبرا عميقا مظلما. فإذا ما قام واحد من بينهم وانفرد عن جامعتهم وشرائعهم قالو هذا متمرد شرير خليق بالنفي،وساقط دنس يستحق الموت...
ولكن هل يظل الانسان عبدا لشرائعه الفاسدة الى انقضاء الدهر أم تحرره الأيام ليحيا بالروح وللروح؟ أيبقى الانسان محدقا بالتراب أم يحول عينيه نحو الشمس كيلا يرى ظل جسده بين الأشواك والجماجم ؟