تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :" إنَّها أمانـةٌ ..!
ذَهَبَ إلى عَملِهِ في الثامنةِ صباحًا .
أمسَكَ بالقلم ليَمضِيَ في دَفتر الحُضُور .
نَظَرَ إليه زميلُه ، وقال : لقد تأخَّرتَ نِصفَ ساعةٍ .
قال : لا بأس .
وعند الثانية عشرة قال لزميلِهِ : إذا جاءَت الثانية ،
امضِ نيابةً عنِّي في دَفتر الانصراف .
وخرج من عَملِهِ قبل مَوعِدِ انتهائِهِ .
تطوَّعَت للعَمل في إحدى الجمعيَّاتِ ، فكانت لا تُتقِنُ عملَها .
وعندما سُئِلَت عن السبب ، قالت : هو عَملٌ تطوعِيٌّ بلا مُقابِلٍ ،
بإمكاني أن أترُكَه وقتما أُحِبُّ ، فلا شيءً يدعوني لاتقانِهِ وبذل
مزيدٍ من الجُهدِ فيه .
دخل الفصلَ ، وبدأ يشرحُ الدَّرسَ . وبعد أن انتهى منه ،
سأل تلاميذَه : هل فهمتُم الدَّرسَ ؟ هل استصعب عليكم شيءٌ فيه ؟
فرفَعَ البعضُ أيديَهم أن نُريدُ إعادةَ شرح هذه النُّقطةِ ، فلم تتَّضِح لنا .
فقال : بعد كُلِّ هذا الشَّرح لم تفهموا ! ليَشرح لكم زُملاؤكم
مِمَّن تابعوا الشَّرحَ وفَهِموا الدَّرسَ ، ولتُركزِّوا معي أكثرَ
في الدُّروس القادمةِ .
تخرُجُ كُلَّ يومٍ للعَمل ، وتُزاحِمُ الرِّجالَ ، وتُرسِلُ أبناءَها لأُمِّها ؛
كَيْ تعتنِيَ بهم فترةَ غِيابِها عن البيتِ ، ولا ترجِعُ إليهم إلَّا في المَساءِ ،
فلا يَرونها إلَّا ساعةً أو أقلَّ ، وينامون بعدَها ؛ لتُوقِظَهم باكرًا ،
ويتكرَّر مِشوارُها اليَوميُّ .
مَواقِفُ كثيرةٌ في حياتِنا ، تَمُرُّ بنا في أنفُسِنا ، داخِلَ بُيُوتِنا ،
أو نراها حولَنا ؛ مع جِيرانِنا ، أقاربِنا ، زُملائِنا .
أماناتٌ بحاجةٍ لِمَن يُحافِظُ عليها ، بحاجةٍ لِمَن يُؤدِّيها حَقَّ الأداءِ ،
بحاجةٍ لِمَن يعتنِي بها ، بحاجةٍ لِمَن يَستشعِرُ أنَّه مُحاسَبٌ عليها .
هِيَ في الحقيقةِ نِعَمٌ قد نغفُلُ عنها ، لا نُدركُها ،
لا يَخطُرُ ببالنا أنَّها قد تُسلَبُ مِنَّا بعَدم عِنايتِنا بها
ومُحافظتِنا عليها .
- عملُكَ أمانةٌ . تأخُّرُكَ عن مَوعِدِه ، أو خُرُوجُكَ منه قبل انتهائِهِ ،
يُحرِّمُ عليكَ راتِبَه .
قد لا تُدرِكُ ذلك ، وتشكو من مُشكلاتٍ وابتلاءاتٍ في حياتِكَ
لا تعلمُ سبَبَها ، والسَّبَبُ واضِحٌ جَلِيٌّ ؛ وهو إدخالُكَ
هذا المال الحرام لبيتِكَ .
- قيامُكَ بعَملٍ تطوعيٍّ لا يعني أن لا تُتقِنَه ، فهو أمانةٌ
اخترتَها برغبتِكَ ، ورَضِيتَ بتحمُّلِها .
فإن لم ترَ منها فائدةً ماديَّةً ، ولم تستشعِر أجرَها الأُخرويَّ ،
فلتترُكها لِمَن هو أَحَقُّ بها مِنكَ ، وأقدرُ على تحمُّلِها .
- كونُكَ اخترتَ وظيفةَ الأنبياءِ والرُّسُلِ عليهم السَّلام ،
وعَمِلتَ مُعلِّمًا ، فإلى جانِبِ ما تتقاضاه مِن راتبٍ ،
احتسِب أجرَ عَملِكَ ، واستحضِر خُلُقَ نبيِّكَ مُحمدٍ - صلَّى الله
عليه وسلَّم - ورِفقَه وتكرارَه للكلامِ ثلاثًا حتى يُفهَمَ عنه .
ما المانِعُ مِن أن تُعيدَ شرحَ الدَّرسِ أو جُزءٍ منه لِمَن لم يَفهمه ؟!
فهناك فُروقٌ فرديَّةٌ بين البشر .
ليس الكُلُّ عنده القُدرةُ على فَهم ما يَسمعونه من أوَّلِ مرَّةٍ .
بل قد يَخفَى على مَن يَفهَمُ مِن أوَّل مرَّةٍ أمورٌ أو كلماتٌ
أو نِقاطٌ تحتاجُ لتوضيحٍ .
فكُن على قدر المسئوليَّةِ ، وأَدِّ الأمانةَ التي اؤتُمِنتَ عليها .
- أولادُكِ أمانةٌ . تربيتُكِ لهم ، وجُلوسُكِ معهم ، وحُسنُ رِعايتِهم
والعِنايةِ بهم ، وتحمُّلُهم ، وتعليمُهم ، أُمورٌ تُؤجَرينَ عليها بإذن الله .
أتتنازلن عن حَسناتٍ وأُجورٍ أنتِ بحاجةٍ لها ، في مُقابل مبلغٍ ماديٍّ
قد لا تكونين بحاجةٍ له ؟! وفي الحَديثِ : (( والمرْأةُ راعِيةٌ
في بيتِ زوجِها ومَسْؤُولةٌ عن رعِيَّتِها )) مُتفقٌ عليه .
أماناتٌ كثيرةٌ تحتاجُ أن نُحافِظَ عليها ، أن نُعطِيَها حَقَّها
من الاهتمام والرِّعايةِ ، أن نعلمَ أنَّنا مُحاسَبُون عليها .
جَوارِحُنا أمانةٌ ؛ أعيُنُنا ، ألسِنتُنا ، آذانُنا ، أيدينا ، أرجُلُنا ،
قُلُوبُنا ، كُلُّها أماناتٌ سنُسألُ عنها . قال تعالى :
(( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ))
الإسراء/36 .
أولادُنا ، أدوارُنا في بُيُوتِنا وأعمالِنا وأماكن تواجُدِنا ، أمانةٌ .
الأماناتُ أكثرُ من ذلك ، ولو تأمَّلناها ، لَوَجدناها نِعَمًا
تستحِقُّ أن نشكُرَ اللهَ عليها . ومِن شُكره سُبحانه :
أن نُحافِظَ عليها ولا نُهمِلَها . وبالشُّكر تدومُ النِّعَمُ وتزيدُ ،
قال سُبحانه : (( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ))
إبراهيم/7 .
بعضُ الأماناتِ لم يَكُن لنا إرادةٌ في اختيارها ، فهِيَ نِعَمٌ
من اللهِ سُبحانه أنعَمَ بها علينا مُنذُ أن وُلِدنا ، أو عند كِبَرنا .
وبعضُها قد اخترنا تحمُّلَها بإرادتِنا ، ولم يُجبِرنا عليها أحد ؛
كوظائِفنا التي سَعينا للحصول عليها ، وبعض الأعمال
التي تطوَّعنا للقيام بها . وهِيَ أماناتٌ سنُسألُ عنها .
ولنُراعِ أن تكونَ هذه المسئوليَّاتُ والأماناتُ فيما يُرضِي اللهَ
ولا يدعوا لمَعصيةٍ .
فكُن على قدر المسئوليَّةِ ، وتحمَّل الأمانةَ التي اؤتُمِنتَ عليها ،
وأدِّها حَقَّ أدائِها ، فإنَّكَ مُحاسَبٌ عليها ، واحتسِب الأجرَ
في كُلِّ خُطُواتِكَ وأماناتِكَ .
وإن لم تقدر على تحمُّل بعض الأماناتِ ، فلتتركها لغيرك ؛
كوظيفةٍ لا تقومُ بها كما ينبغي ، أو مالٍ طُلِبَ منكَ حِفظُه
ولا تستطيعُ ، إلى غير ذلك .
وتذكَّر دائمًا قولَ اللهِ تعالى :
(( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا )) النساء/58 .