هل من قضية سوى القدس؟

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

لازلت أذكر أستاذ الفلسفة المتوحد الذي كان يدرس لنا مادة الفكر المعاصر في كلية الإعلام في جامعة القاهرة والذي كثيراً ما كان يرتدي عمامة الفقيه ويطلق فتاوى ثورية تلهب مشاعر طلبة تمتلئ نفوسهم بأحلام التغيير.



في إحدى محاضراته ناقشنا حسن حنفي في فكرته/فتواه بعدم جواز الصلاة في الأرض المغصوبة، لا أتذكر تخريجاته الفقهية الآن ولكني استعيد وجوهاً مفعمة بالحماس، فعدم إقامة شعائر الصلاة في فلسطين وبالذات في القدس وعلى وجه الخصوص في المسجد الأقصى سيدفع المسلمين الى الإسراع بتحرير الأراضي المحتلة.



فلسطين، القدس، أماكن عزيزة على النفس يمكن من خلالها الاستطراد في البوح الذاتي ويمكن عبرها أيضاً رصد تأثير المكان على مسارات المثقف العربي وتقلباته وفضاءات أحلامه، بل ان فلسطين يمكن مرة ثالثة رصدها كقضية مفردة فضاء أثر على الفكر العربي بأكمله خلال القرن العشرين.



كان لزرع الكيان الصهيوني في المنطقة العربية ابرز الأثر على المثقف العربي وقناعاته، ويرصد أحمد بهاء الدين في أحد مقالاته هذا الأثر على أساس ان الكيان الصهيوني مثل حالة فريدة قائمة بذاتها تتسم بالغموض والتعقيد، فهناك قطاعات من المثقفين العرب رأت ان هذا الكيان قائم على الأخذ بأحدث الأساليب العلمية، وقطاعات أخرى ذهبت إلى أن أسباب تفوق هذا الكيان تعود إلى التمسك بالعقيدة، وفريق ثالث انطلق من منهج مغاير، وفريق رابع ذهب الى نظريات اخرى وهكذا أي أن “إسرائيل” وفقاً لبهاء الدين وصيرورة الفكر العربي المعاصر مثلت حالة فكرية قائمة بذاتها تدعو الى التوقف والتأمل.



في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأت ملامح التيارات الفكرية تتضح في الوطني العربي. انبثقت كلها من عباءة المصلحين العرب كرفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي وبطرس البستاني واحمد فارس الشدياق وغيرهم. ولعب جمال الدين الافغاني دوراً بارزاً في بلورة تيار الجامعة الاسلامية وجاء محمد عبده ليعطي هذا التيار دفعة الى الامام وان كانت بروح تنويرية تتجاوز طروحات الافغاني.



وفي بلاد الشام فرضت التركيبة السكانية والعلاقة مع الدولة العثمانية توجهاً آخر يمزج بين العلمانية والقومية العربية وفي الوقت نفسه صعدت دعوة مصر للمصريين كنتاج للثورة العرابية، أي أننا أمام حالة فكرية خصبة وشديدة التعقيد فرضتها الهجمة الاستعمارية على بلادنا آنذاك.



ولكن يلاحظ ان جميع هذه التيارات لم تكن على وعي بمسألة فلسطين، وتذكر المصادر التاريخية ان رجالاً كمحمد علي والسلطان عبدالحميد الثاني كانوا أكثر وعياً من تيارات حالمة بالنهضة والحرية. ان رصد مسار أي فكر هو أمر بالغ الصعوبة، فهناك الخلفيات الاجتماعية والظروف الاقتصادية والقوى الدولية الفاعلة والمناخ الفكري الثقافي المحيط، ولكن هناك وبشكل تبسيطي محطات يمكن الوقوف عندها سريعاً وتظهر بشكل أكيد أن فلسطين وفي القلب منها القدس مثلت انقلاباً كاملاً لأفكار وتصورات ورؤى عديدة.



تشهد الفترة الواقعة من نهايات القرن التاسع عشر وحتى بداية حقبة الثلاثينات في القرن العشرين أفكاراً عدة صاغها مثقفون مصريون وشوام جاءوا الى مصر ولعبوا دوراً مهماً في الثقافة المصرية آنذاك، ولكن هذه الأفكار لم تكن تهتم بفلسطين سواء بابعادها السياسية أو الثقافية أو بمعنى آخر لم تكن مصر آنذاك تهتم ببعدها العربي، فحتى عام 1936 يؤكد مارسيل كولومب في كتابه “تطور مصر” أنه كان هناك انتقاد حاد من قبل النخبة المصرية لتوجه الحكومة آنذاك لكي تهتم أو تشارك في أي شأن عربي ولكن تجمع الكثير من المصادر المؤرخة لهذه الفترة أن منتصف حقبة الثلاثينات من القرن العشرين شهدت بروزاً لملامح تيار عروبي في مصر يعي المنطقة على الأقل في وحدتها الثقافية، ويذهب محمد جابر الانصاري في كتاب “الفكر العربي وصراع الاضداد” ان اندلاع الثورة الفلسطينية في عام 1936 لعب الدور الأبرز في هذا التغيير.



هذا التيار والذي من الصعب تحديد ملامحه بدقة بسبب صعوبة الرصد القاطع للأفكار وحياتها سينعكس في كتابات أعلام تلك الفترة، سيتحول جيل طه حسين والعقاد وهيكل والحكيم وغيرهم من التبشير بالغرب الى الالتفات اكثر الى العروبة، طه حسين من سبارتكوس الى ثورة الزنج، هيكل من حياة جان جاك روسو الى حياة محمد صلى الله عليه وسلم، العقاد من الافتتان بالثقافة الانجليزية الى سلسلة عبقرياته، والحكيم من مصر الفرعونية في عودة الروح الى أهل الكهف ومحمد سيرة حوارية.



نتوقف مرة أخرى مع البداية الفعلية لضياع فلسطين في عام 1948 حيث أعطت شرعية لزوال النظام الملكي في مصر وفتحت الطريق ممهداً أمام ثورة يوليو/تموز 1952 وتوابعها في المنطقة، وظلت تيارات أخرى مبلبلة أمامها تراجع افكارها ومنطلقاتها ونعني هنا التيار الليبرالي واليسار تحديداً.



مرة ثالثة نتوقف طويلاً مع ضياع القدس في عام 1967. في هذه الجولة ستنشأ اكبر حركة نقد ذاتي في الثقافة العربية المعاصرة وبقليل من الحذر في تاريخ هذه الثقافة بأكملها: النقد الذاتي بعد الهزيمة، الهزيمة والايديولوجيا المهزومة، الاسم العربي الجريح، نقد العقل العربي، الثابت والمتحول.. عشرات الكتب والتي دفعت بأصحابها الى تبوؤ مكانة مرموقة في الفكر العربي ستمارس ما يمكن اعتباره بمعنى آخر جلداً للذات يطول كل شيء. ليس على مستوى التنظير فحسب، وانما في الإبداع ايضاً: الرواية والمسرح والشعر والسينما والغناء، فلا يوجد منتج ثقافي بعد انقلاب العالم وضياع القدس الا “البكائيات” على حد تعبير الجابري في أحد كتبه.



على مستوى التعاطي مع الآخر سينفتح الباب على عصر ما بعد المركزية الاوروبية وستعاد قراءة تاريخنا بروح أخرى وستتغير أفكار ومفاهيم، لن تكون القدس تلك المدينة التي نتغنى بها أو المسألة المعيقة رسمياً لاتمام المفاوضات مع العدو وستكون رمزاً لسقوط أنظمة وصعود أخرى ونشأة تيارات فكرية وقيام مراجعات فكرية وانتقالات لمثقفين من معسكر الى آخر، وستنشأ بفعل ضياعها مشروعات ثقافية كاملة وسيفني البعض حياتهم للاجابة عن سؤال “اين الخلل؟” وآخرون سيطلقون اشكالية الاستبداد/الاستعمار كنفق مظلم لم يستطع العرب الخروج منه وتسبب في ضياع فلسطين وفي القلب منها القدس.



وبعد كل هذه السنوات أتذكر فتوى/رأي حسن حنفي حول عدم جواز الصلاة في الأرض المغصوبة وأسأل من واقع خريطة الوطن العربي بفرض تحقق ذلك الرأي.



هل سنتحرك لتحرير القدس؟ أليست فرصة مواتية للكيان الصهيوني بإكمال حفرياته اسفل المسجد الأقصى بحثاً عن الهيكل المزعوم؟ لقد فرض ضياع القدس احلاماً وأوهاماً وأسئلة ربما تحتاج لقرن آخر من المراجعات الثقافية والسياسية والاجتماعية الجادة.

يسلمووووو
منورين
الموضع

بارك الله فيك
ننتظر منك الكثير
من خلال ابداعاتك المميزة
وكل التوفيق لك والتألق