المبحث الثاني
الجهة القضائية المختصة في تأديب الموظف العام
من المسلم به أنّ سلطة التأديب تعدّ السلاح القوي الفعال في يد الإدارة لكي تردع به الموظفين عند حدوث تقصير من جانبهم أثناء أداء واجباتهم الوظيفية، إذا كان القانون قد أعطى الإدارة مثل هذه السلطة الأخيرة في أمور الموظفين لكي تقوم على حسن سير المرافق العمومية، فإنّه من ناحية أخرى حريص على أن تكون ممارسة هذا الحق وفقا لقواعد وأحكام ضمنها في نصوصه، وهذه الأحكام تتناول نواحي التأديب المختلفة من ضمنها السلطة القائمة على أمر التأديب .
ويمكنها كذلك من المقدرة على فهم جوانب الخطأ التأديبي وأبعاده والعوامل التي أحاطت به، ومن ثم يمكنها من سرعة اتخاذ الجزاء أو العقاب العادل والرادع في ذات الوقت، فهناك إذن ارتياب كامل بين فاعلية العقاب وبين السلطة المختصة بتوقيعه .
وسوف لن يتسنى لنا معرفة ماهية السلطة المختصة بتوقيع العقوبة التأديبية المقررة للخطأ التأديبي إلاّ من خلال التطرق إلى:
- الأنظمة المختلفة للجهة المختصة في تأديب الموظف العام وذلك من خلال المطلب الأول.
- السلطة المختصة بإصدار قرار التأديب من خلال المطلب الثاني من هذا المبحث.
المطلب الأول
الأنواع المختلفة للجهة المختصة في تأديب الموظف العام
تختلف الأنظمة التشريعية الوظيفية فيما بينها اختلافا بينا، في تحديد السلطة المختصة بالتأديب بحيث يتعذر القول بوجود تطابق كامل بين نظام معمول به في دولة ونظام مطبق في دولة أخرى ، وعلى الرغم من اختلاف قوانين الدول فيما يتعلق بالسلطة المختصة بتوقيع السلطة التأديبية، إلا و أنها تدور عادة بين أنظمة ثلاثة وهي النظام الرئاسي والنظام القضائي وكذا النظام شبه القضائي . والتي يمكن عرضها كما يلي:
الفرع الأول
الأنظمة المختلفة
أولا: النظام القضائي
يتميز النظام القضائي في التأديب باقتراب الدعوى التأديبية من الدعوى الجنائية وجعل نظام التأديب نظاما قضائيا بالمعنى الصحيح، وذلك بفصل سلطتي التحقيق والاهتمام من جهة والسلطة الرئاسية من جهة أخرى ويبقى دورها مقتصرا كسلطة للتأديب على العقوبات البسيطة .
ويقتصر دور السلطة الرئاسية في هذا النظام على توجيه الاهتمام إلى الموظف المخطئ، كما أنّ المشرع قد ينشأ هيأة خاصة تتولى القيام برفع الدعوى التأديبية، وتتولى الإدعاء أمام هذه المحاكم وتدعى )النيابة الإدارية) وتأخذ بهذا النظام كقاعدة عامة عدة دول منها ألمانيا والنمسا ومصر .
ووجود مثل هذا النظام يتطلب بالضرورة وجود إجراءات تأديبية محددة، توفر للموظفين أقصى ما يمكن من ضمانات الحياة والطمأنينة في متابعة الدعوى الـتأديبية، ويقوم على تخصص قضائي تخرج بناءا عليه الدعاوى التأديبية من اختصاص المحاكم الإدارية والعادية .
وينفرد النظام القضائي في التأديب بعدة خصائص ومميزات نذكر منها ما يلي :
1- يحقق النظام القضائي مبدأ العدالة والموضوعية في التأديب، حيث تكون السلطة التأديبية في ظله بعيدة كل البعد عن مساوئ كل من النفوذ السياسي والإداري.
2- أنه نظام كفيل بمنع استبداد أو انحراف السلطات الرئاسية فيما لو باشرت الاختصاص التأديبي.
3- إنّ نظام التأديب أقرب في حقيقته إلى الوظيفة القضائية منه إلى الوظيفة الإدارية.
ومع ذلك لم يسلم النظام القضائي منها :
1- المحاكم التأديبية تؤدي إلى البطئ والروتين، لذلك من الأفضل أن توضع سلطة التأديب في يد شخص واحد يكون ممثلا للسلطة الرئاسية.
2- إنّ المحاكم التأديبية تتبع إجراءات قضائية مطولة وتخضع لشكليات كثيرة الأمر الذي يؤدي إلى تأخير توقيع العقاب.
3- إنّ القول بأنّ التأديب أقرب إلى وظائف القضاء منه إلى وظائف الإدارة، قول يتضمن الخلط بين رسالة التأديب وعمل القاضي، فالتأديب في واقع الأمر من أخص أعمال الرئيس الإداري فهو نوع من سلطته الرئاسية.
ثانيا: النظام الشبه القضائي
هو نظام رئاسي في جوهره، فدور السلطة الرئاسية في توقيع العقوبة مازال قائما وعلى الأقل ظاهرا، إلاّ أنّ بعضا من ال
ات تدخل على النظام الرئاسي لا تأثر في هيكله، وإن كانت تغير من ملامحه فتهدف في مجموعها إلى تأمين قدر من الضمانات الجوهرية للموظف العام وأهم هذه ال
ات هي :
1- التزام السلطة الرئاسية بأخذ رأي هيأة معينة قبل توقيع العقوبة التأديبية، وهي إن كانت لا تلتزم بنتيجة هذا الرأي.
2- وفي حالات أخرى ينشأ المشرع مجالس تأديب يغلب فيها العنصر الإداري، تختص بتوقيع العقوبات التأديبية عل الموظفين العموميين وتأخذ بهذا النظام عدة دول .
ولهذا النظام في الواقع مبررات ومزايا عديدة من بينها :
1- إنه يحقق للموظفين قدرا أكبر من الضمان، حيث يقيد إلى حد ما من السلطة التقديرية للإدارة وبالتالي إمكانية إشراك هيئات أخرى معها في هذا المجال.
2- يحاول النظام شبه القضائي التوفيق بيت المصلحة العامة المتمثلة في ضرورة تمتع الإدارة بقدر من الاستقلال وحرية التقدير، وبين مصلحة الأفراد المتمثلة في حماية الحقوق والحريات العامة. وذلك بالتزام الإدارة بمبدأ المشروعية.
3- إنه نظام يعمل على إقامة فصل تدريجي بين سلطة الاتهام وسلطة الحكم بتنظيم تدخل الهيئات الاستشارية المكلفة بإبداء الرأي قبل صدور الحكم من السلطات الرئاسية.
وأي كان الأمر، فإنّ نظام التأديب شبه القضائي يقوم على تشكيل مجالس تأديبية غالبية أعضائها من رجال الإدارة مع وجود عنصر قضائي في تشكيلها، وتصدر هذه المجالس قرارات نهائية و ليس مجرد رأي أو مشورة، وهذه المجالس تعتبر فعلا هيئات شبه قضائية أو هيئات إدارية ذات اختصاص قضائي .
هذا وقد أخذ على هذا النظام أنه يضعف من السلطة الرئاسية تجاه المرؤوسين طالما أنّ هذه السلطة لا تملك بمفردها حق توقيع العقاب على هؤلاء المرؤوسين في حالة اقترافهم لأفعال منافية لحسن سير وانتظام المرفق، ويأخذ على هذا النظام أيضا تعسفه في استعمال السلطة الرئاسية في النظام الرئاسي، وطول الإجراءات التي تطلبها المحاكمة في النظام القضائي وبعد القاضي عن الواقع .
ومما يجدر الإشارة إليه أنّ البعض قد أطلق على النظام شبه القضائي تسمية النظام المختلط استنادا إلى قيام الجزاء أو العقاب الرئاسي في هذا النظام على إجراءات إدارية والجزاء أو العقاب القضائي منه على أساس إجراءات قضائية .
ثالثا: النظام الرئاسي
النظام الرئاسي هو النظام الذي تستقل فيه السلطة الرئاسية دون غيرها بحق فرض كافة العقوبات التأديبية باختلاف درجاتها على الموظفين العموميين في الدولة، ويعد النظام الرئاسي في التأديب أقدم صور الأنظمة التأديبية المعروفة حاليا ويرتبط ظهوره بظهور الوظيفة العامة ذاتها منذ بداية عهد الدولة الحارسة وحتى مفهوم الدولة في العصر الحديث .
ويكون للسلطة الرئاسية في هذا النظام الحق بمفردها في توقيع كافة العقوبات التأديبية (البسيطة والجسيمة) على الموظفين العموميين دون الأخذ برأي هيأة معينة .
ويعتبر من صور هذا النظام، أن تأخذ السلطة التأديبية الرئاسية-قبل توقيعها العقاب- رأي هيأة أو مجلس ولكن لا تلتزم السلطة المذكورة بهذا الرأي، غير أنه ومن التشريعات ما يجعل هذا الرأي ملزما للسلطة الرئاسية وإن كان لها حق
ه لصالح الموظف .
ولا شك أنّ النظام الرئاسي يجعل الغلبة لمبدأ الفعالية في مجال أو نطاق الإدارة على حساب مبدأ الضمان الذي يسود نظام التأديب القضائي، وقد تم تغليب هذه الفعالية بغرض تسيير المرافق العامة بانتظام وإضطراد وأنّ ذلك لن يتحقق إلاّ إذا تزودت الجهات الإدارية أو الرئاسية بسلطة التأديب، ويذهب البعض إلى أنّ إسناد التأديب للسلطة الرئاسية يؤدي إلى نوع من الردع المعنوي للموظفين لإدراكهم أنّ السلطة الرئاسية تملك الحق في إيقاع العقوبات التأديبية عليهم إذا ما أخلو بواجباتهم الوظيفية .
ومن تطبيقات النظام الرئاسي في التأديب، النظام الانجليزي والأمريكي، حيث تباشر السلطة التأديبية في كل هذه الأنظمة من خلال السلطة الرئاسية وعلى رأسها الوزير المختص والذي تكون له الكلمة الأخيرة والنهائية في كافة القرارات التأديبية والتي تصدر في حق الموظفين التابعين لقضائه .
والجدير بالذكر أنّ فرنسا كانت تأخذ بالنظام الرئاسي في التأديب في بادئ الأمر إلاّ أنها اتجهت إلى الأخذ بالنظام شبه القضائي وكان ذلك بسبب الانتقادات الشديدة التي وجهت للنظام الرئاسي في مجال التأديب وتتمثل هذه الانتقادات أساسا فيما يلي :
1- إنّ السلطة الرئاسية تخشى أحيانا توقيع العقاب التأديبي خوفا من أن تكون هذه العقوبات محلا لمناقشة لاحقة من الرئيس الأعلى أو الرأي العام أو ربما البرلمان.
2- قد تتأثر السلطة الرئاسية في اتخاذ الإجراءات التأديبية بضغط النقابات أو الهيئات السياسية مما يجعل السلطة الرئاسية وهي التي تملك نظريا حق توقيع العقاب.
وقد رد على هذه الانتقادات بما يلي :
1- أنّ مباشرة السلطة التأديبية يخضع للرقابة القضائية.
2- أنّ النظام الرئاسي له مميزات خاصة لكون الرئيس الإداري أدى في تقدير الظروف والملابسات التي ارتكب فيها الخطأ.
3- أنّ الرئيس الإداري أدى من غيره بسيرة الموظف باعتباره المسؤول عن حسن سير المرفق أو المصلحة التي يشرف عليها .
4- أنّ حق التأديب شأنه شأن التشجيع، والتقدير يعتبر من الأمور الضرورية للتسيير.
ومما سبق يتضح ويتبين لنا أنّ النظام التأديبي الأمثل لسلطة العقاب هو النظام الذي يقوم على نوع من الموازنة ما بين مقتضيات الضمان (القانون) وبين الفاعلية )الإدارة العامة
فالنظام الرئاسي في التأديب يفتقر لعنصر الضمان، وعلى العكس منه النظام القضائي يفتقر لعنصر الفاعلية لحساب الضمان وتأسيسا على هذه المعطيات فإنّ بعض التشريعات المقارنة لا تحبذ اعتناق أي من النظامين الإداري والقضائي البحت، بل ترى هذه التشريعات بأنّ النظام الأجدر بالإتباع هو ذلك المتسم بالصفة المختلطة بين النظامين الإداري والقضائي وهو ما يطلق عليه (النظام الشبه القضائي) القائم على نوع من الموازنة بين الفاعلية والضمان، والذي يجمع بين خصائص النظام الإداري (الرئاسي) والنظام القضائي بغية تلاقي العيوب الشائعة في مجال العقاب التأديبي، محققا الهدف النهائي للتأديب الوظيفي، مع مراعاة المصالح العامة والخاصة.
الفرع الثاني
موقف المشرع الجزائري
لقد حاول المشرع الجزائري الأخذ بمميزات كل من النظامين الرئاسي والشبه القضائي وتجنب عيوب كل منهما، ويتجلى ذلك في إعطاء سلطة توقيع عقوبات الدرجة الأولى للسلطة الرئاسية التي لها صلاحية التعيين والتي تنفرد بتوقيعها وذلك بمقرر مبين الأسباب، دون استشارة التأديب مقدما وهو ما نصت عليه المادة (56) من الأمر(66/133) والمؤرخ في 02 جوان 1966 والمتضمن القانون الأساسي للوظيف العمومي ونص المادة (125) من المرسوم (85/59) المؤرخ في 23 مارس 1985 والمتضمن القانون الأساسي النموذجي لعمال المؤسسات والإدارات العمومية كما منح المشرع السلطة الرئاسية أيضا سلطة توقيع عقوبات الدرجة الثانية لكنه خيرها باستشارة مجلس التأديب مقدما.
أما عقوبات الدرجة الثالثة فقد خولها المشرع أيضا للسلطة التأديبية الرئاسية ومنحها سلطة توقيعها لكنه قيدها بإلزامية وضرورة استشارتها لمجلس التأديب إجباريا بعد أخذ رأيه وموافقته وإتباع إجراءات قانونية محددة في ذلك، وإلا اعتبر قرارها بتوقيع العقوبة التأديبية قرارا باطلا نظرا للإجبارية الأخذ بالرأي مجلس التأديب، وهو ما نصت عليه المادة (56) في فقرتها الثالثة من الأمر (66/133) ونص المادة (127) من المرسوم (85/59)، السالفي الذكر.
ومن ذلك يتبين أن النظام المتبع في الجزائر هو نظام رئاسي وشبه قضائي، حيث نجد المشرع منح مهمة التأديب للسلطة الرئاسية وأنشأ بجانبها لجنة على مستوى كل هيئة أو سلك إداري تدعى "اللجنة المتساوية الأعضاء" وتختص بالنظر في المسائل الفردية الخاصة بالموظفين والتي من بينها مسألة التأديب فتجتمع في مجلس للتأديب، وتدلي برأيها الاستشاري غير الملزم والاختياري في عقوبات الدرجة الثانية والإلزامي الإجباري في عقوبات الدرجة الثالثة والتي تتطلب لتوقيعها موافقتها ..