تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :محمد مهدي الجواهري
(1902هـ - 1997م)
شاعر عربي عراقي, ولد في النجف تميزت قصائده بالتزام عمود الشعر التقليدي, على جمال في الديباجة وجذالة في النسيج. كما تميزت بالثورة على بعض الاوضاع الإجتماعية والسياسية, عاش فترة من عمره مبعداً عن وطنه, له ديوان ضخم حافل بالمطولات.
مناسبة القصيدة
عام 1962، كان الشاعر يمر بأزمة نفسية حادة إثر اضطراره إلى مغادرة العراق هو وعائلته والإقامة في جيكوسلوفاكيا
القصيدة
حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني
يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البستاتينِ
حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذُ به
لوذَ الحمائمِ بين الماءِ والطين
يا دجلةَ الخيرِ يا نبعاً أفارقُهُ
على الكراهةِ بين الحِينِ والحين
إنِّي وردتُ عُيونَ الماءِ صافيةَ
نَبْعاً فنبعاً فما كانت لتَرْويني
وأنتَ يا قارَباً تَلْوي الرياحُ بهِ
لَيَّ النسائمِ أطرافَ الأفانين
ودِدتُ ذاك الشِراعَ الرخص لو كفني
يُحاكُ منه غَداةَ البَين يَطويني
يا دجلةَ الخيرِ: قد هانت مطامحُنا
حتى لأدنى طِماحِ غيرُ مضمون
أتَضمنينَ مَقيلاً لي سَواسِيةً
بين الحشائشِ أو بين الرياحين؟
خِلْواً مِن الـهمِّ إلاّ همَّ خافقةٍ
بينَ الجوانحِ أعنيها وتَعنيني
تَهُزُّني فأُجاريها فتدفعُني
كالريح تُعجِل في دفع الطواحين
يا دجلةَ الخيرِ: يا أطيافَ ساحرةٍ
يا خمرَ خابيةٍ في ظلِّ عُرْجون
يا سكتةَ الموتِ، يا إعصارَ زوبعةٍ
يا خنجرَ الغدرِ، يا أغصانَ زيتون
يا أُم بغدادَ، من ظَرفٍ، ومن غَنَجٍ
مشى التبغددُ حتى في الدهاقين
يا أمَّ تلك التي من «ألفِ ليلتِها»
للآنَ يعبِق عِطرٌ في التلاحين
يا مُستَجمَ «النُّوُاسيِّ» الذي لبِستْ
به الحضارةُ ثوباً وشيَ «هارون»
الغاسلِ الـهمَّ في ثغرٍ، وفي حَبَبٍ
والمُلبسِ العقلَ أزياءَ المجانين
والساحبِ يأباه الزِّقَّ ويُكرِهُه
والمُنْفِقِ اليومَ يُفدى بالثلاثين
والراهنِ السابِريَّ الخزَّفي قدحٍ
والملـهِمِ الفنَّ من لـهوٍ أفانين
والمُسْمعِ الدهرَ، والدنيا، وساكنَها
قرْعَ النواقيسِ في عيدِ الشعانين
يا دجلة الخير: ما يُغليكِ من حنَقٍ
يُغلي فؤادي، وما يُشجيكِ يشجيني
ما إن تزالَ سِياطُ البغي ناقعةً
في مائِك الطُهْرِ بين الحِين والحين
ووالغاتٌ خيولُ البغي مُصْبِحةَ
على القُرى آمناتٍ والدهاقين
يا دجلة الخير: أدري بالذي طفحت
به مجاريك من فوقٍ إلى دوُن
أدري على أيِّ قيثارٍ قد انفجرت
أنغامُكِ السُمر عن أنَّات محزون
أدري بأنكِ من ألفٍ مضتْ هَدَراً
للآن تَهْزَين من حكم السلاطين
تَهزين أنْ لم تزلْ في الشرق شاردةً
من الن
يس أرواحُ الفراعين
تهزينَ من خِصْبِ جنَّات منشَّرةٍ
على الضفاف، ومن بؤس الملايين
تهزين من عُتقاءٍ يوم مَلحمةٍ
أضفوا دروعَ مَطاعيمٍ مَطاعين
الضارعين لأقْدارٍ تحِلُّ بهم
كما تلوَّى ببطن الحُوتِ ذُو النون
يرون سُودَ الرزايا في حقيقتها
ويفزعون إلى حَدْسٍ وتخمين
والخائفينَ اجتداعَ الفقرِ ما لَهُم
والمُفضلِينَ عليه جَدْعَ عِرنين
واللائِذينَ بدعوى الصبر مَجْبَنةً
مُستَعصِمينَ بحبلٍ منه مَوهون
والصبرُ ما انفكَّ مَرداةً لمُحترِبٍ
ومستميتٍ، ومنجاةً لمِسكين
يا دجلةَ الخير: والدنيا مُفارَقةٌ
وأيُّ شرٍّ بخيرٍ غيرُ مقرون
وأيُ خيرٍ بلا شرٍّ يُلَقِّحه
طهرُ الملائك منْ رجس الشياطين
يا دجلة الخير: كم مِنْ كنز موهِبةٍ
لديك في «القُمقُم» المسحورِ مخزون
لعلَّ تلك العفاريتَ التي احْتُجِزتْ
مُحَمَّلاتٌ على أكتاف «دُلفين»
لعلَّ يوماً عصوفاً جارفاً عَرِماً
آتٍ فتُرضيك عقباه وترضيني
يا دجلة الخيرِ: إن الشِعْرَ هدْهدةٌ
للسمع ما بين ترخيمٍ وتنوين
عفواً يُردّد في رَفْهٍ وفي عَلَلٍ..
لحن الحياة رخيِّاً غيرَ مَلحون
يا دجلةَ الخير: كان الشعرُ مُذْ رَسمتْ
كفُ الطبيعةِ لوحاً، «سِفْرَ تكوين»
«مزمارُ داودَ» أقوى من نبوّتهِ
فحوًى، وأبلغُ منها في التضامين
يا دجلةَ الخير: لم نَصحب لمسكنةٍ
لكن لنلمِسُ أوجاعَ المساكين
هذي الخلائقُ أسفارٌ مجسَدةٌ
المُلـهمون عليها كالعناوين
إذا دجا الخطبُ شعَّت في ضمائرهم
أضواء حرفٍ بليل البؤس مرهون
دَينٌ لِزامٌ، ومحسودٌ بنعمته
من راح منهم خَليصاً غيرَ مديون
يا دجلة الخير: ما أبقيتُ جازِيةً
لم أقضِ عنديَ منها دَيْنَ مديون
ما كنتُ في مَشْهدٍ يَعنيك مُتَّهماً
خَبَاً، وما كنتُ في غيبٍ بظِنِّين
وكان جُرحُكِ إلـهامي مُشاركَةً
وكان يأخذُ من جُرحي ويُعطيني
وكان ساحُكِ من ساحي إذا نزلت
به الشدائد، أقريه ويَقريني
حتى الضفادعُ في سفحيكِ سَارِيةَ
عاطيتُها فاتناتٍ حُبَّ مفتون
غازلتُهنَّ خليعاتٍ وإن لبست
من الطحالب مزهوَّ الفساتين
يا دجلة الخير: هلاَّ بعضُ عارفَةٍ
تُسدَى إليَّ على بُعدٍ فتَجزينني
يا دجلة الخير: مَنِّيني بعاطفة
وألْهِمينيَ سُلواناً يُسَلِّيني
يا دجلة الخير: من كل الأُلى خَبَروا
بلوايَ لم ألفِ حتى من يواسيني
يا دجلةَ الخيرِ: خلِّي الموجَ مُرتفقاً
طيفاً يمرُّ وإن بعضَ الأحايين
وحمِّليه بحيثُ الثلجُ يغمرني
دفءَ «الكوانين»، أو عطر «التشارين»
يا دجلةَ الخير: يا من ظلَّ طائفُها
عن كل ما جَلَتِ الأحلام يُلـهيني
لو تعلمين بأطيافي ووحشتِها
ودِدتِ مثلي لَوَ أنَّ النومَ يجفوني
أجسُ يقظانَ أطرافي أعالجها
مما تحرَّقت في نومي بأتُون
وأستريح إلى كوبٍ يُطّمئنُني
أن ليس ما فيه مِن ماءٍ بغِسلين
وألمِسُ الجُدُرَ الدَكناءَ تخبرني
أنْ لستُ في مَهْمَهٍ بالغِيل مسكون
يا دجلةَ الخير: خلِّيني وما قَسَمَتْ
لي المقاديرُ من لدغ الثعابين
الطالحاتُ فما يبعثْنَ صالحةً
ولا يُبعثرْنَ إلاّ كلَّ مأفون
والراهناتُ بجسمي يَنْتَبِشن به
نبشَ الـهوامِ ضريحاً كلَّ مدفون
واهاً لنفسيَ من جمعِ النقيضِ بها
نقيضَه جمْعَ تحريكٍ وتسكين
جنباً إلى جنب آلامٍ أقُطِّفُها
قَطْفَ الجياع جَنى اللّذّات يزهوني
وأركبُ الـهوْلَ في ريعانِ مامَنةٍ
حبُّ الحياة بِحبِّ الموتِ يُغريني
ما إن أُبالي أصاباً درَّ أم عسلاً
مريٌ أراه على العلاّتِ يرضيني
غُولاً تسنَّمتُ لم أسألْ أكارعَه
إلى الـهُوَى، أمْ على الواحات ترميني
وما البُطولاتُ إعجازٌ وإنْ قنِعت
نفسُ الْجبانِ عن العلياء بالـهُون
وإنَّما هي صفوٌ منْ مُمارَسَةٍ
للطارئات، وإمعَانٍ، وتمرين
لا يُولَدُ المَرءُ لاهِرَّاً ولا سَبُعاً
لكن عصارةَ تجريبٍ وتلقين
يا دجلة الخير: كم معنًى مزجتُ لـه
دمي بلحمي في أحلى المواعين
ألفيته فَرْطَ ما ألوى اللواةُ به
يشكو الأمرَّينِ من عَسْفٍ ومن هُون
أجرَّه الشوكَ ألفاظٌ مُرَصَّفةٌ
أجرَّها الشوكَ سجعٌ شِبهٌ موزون
سَهِرتُ ليلَ «أخي ذبيان» أحضُنه
حَضْنَ الرواضعِ بين العتِّ واللين
أعِيدُ من خَلقه نحتاً وخَضْخضةً
والنجمُ يَعْجَب من تلك التمارين
حتَّى إذا آضَ ريَّان الصِبا غَضِراً
مهوى قلوبِ الحسانِ الخرَّدِ العِين
أتاح لي سُمَّ حيَاتٍ مُرقَّطةٍ
تَدبُّ في حمَأ بالحقد مَسْنون
فهل بحسبِ الليالي من صدى ألمي
أني مَضِيغَةُ أنيابِ السراحين
الآكلين بلحمي سُمَّ أغرِبَةٍ
وغُصَّةً في حلاقين الشواهين
والساترينَ بشتمي عُرْيَ سوأتِهم
كخَصْفِ حوّاءَ دوحَ التُوتِ والتين
والعائشينَ على الأهواء مُنزلةً
على بيانٍ بلا هَديٍ وتبيين
والميِّتينَ وقد هيضت ضمائرهُم
بواخزٍ معهم في القبر مدفون
صنّاجةَ الأدبِ الغالي، وكم حِقَبٍ
بها المواهبُ سيمَت سَوْمَ مغبون
ومُنْزِلَ السِوَرِ البتراءِ لاعِنَةً
مَنْ لم يكن قبلـها يوماً بملعون
جوزيتَ عنها بما أنت الصليُّ به
هذا لَعمري عطاءٌ غيرُ ممنون!!
ماذا سوى مثلِ ما لاقيتَ تأمُلُهُ
شمُ العرانين من جُدْع العرانين
حامي الظعائن لا حمدٌ ولا مِقةٌ
وقد يكون عزاءً حمدُ مظعون
لمن؟ وفيمَ؟ وعمَّن أنت محتملٌ
ثِقْلَ الدَّيات من الأبكار والعُون؟
ويا زعيماً بأن لم يأته خبرٌ
عمّا يُنشَّرُ من تلك الد
ين
لك العمى ومتى احتجَّتْ بأن قَعَدتْ
عن الموازينِ أربابُ الموازين
بل قد مَشَتْ لكَ كالأصباحِ عابقةً
وأنت تحذرها حذرَ الطواعين
كفرتُ بالعلم صِفْرَ القلب تحملـه
للبيع في السوق أشباه البراذين
كانت عباقرةُ الدنيا وقادتُها
تأتي المورِّقَ في أقصى الدكاكين
تلمُ ما قد عسى أن فات شارِدُهُ
عنها، ولو كان في غُيَّابة الصين
لـهفي على أمَّةٍ غاض الضميرُ بها
من مدّعي العلمِ، والآداب والدين
موتى الضمائرِ تُعطي المَيْتَ دمعتَها
وتستعينُ على حيٍّ بسكِّين
لا بُدَّ معجِلةٌ كفُّ الخَراب به
بيتٌ يقوم على هذي الأساطين
جُبْ أُربُعَ النقد، واسألْ عن ملاحمها
فهل ترى من نبيغٍ غيرِ مطعون
وقِفْ بحيثُ ذوو النَّزْعِ الأخير بها
وزُرْ قُبورَ الضحايا والقرابين
ترَ الفطاحلَ في قتلٍ على عَمَدٍ
همُ الفطاحلُ في صوغ التآبين
مِن ناكرٍ عَلَماً تُهدى الغواة به
حتى كأن لم يكن في الكاف والنون
أو قارنٍ بأسمه خُبثاً وملأمةً
مَن ليس يوماً بضْبِعَيْهِ بمقرون
تشفّياً: إنَّ لمحَ الفكر منطلقاً
قذًى بعين دعيِّ الفكر مأفون
عادى المعاجمَ وغْدٌ يستهين بها
يُحصي بها «أبجدياتٍ» ويعدوني
شلَّت يداك وخاست ريشةٌ غفلت
عن البلابل في رسم السعادين
يا دجلةَ الخير: ردّتني صنيعتَها
خوالجٌ هُنَّ من صنعي وتكويني
إن المصائب طوعاً أو كراهيةً
أعَدْنَ نَحْتِي، كما أبدَعْنَ تلويني
أرَينني أنّ عندي من شوافِعِها
إذا تباهى زكيٌ ما يزكّيني
وجَبَّ شتَى مقاييسٍ أخذتُ بها
مقياسُ صبرٍ على ضُرٍّ وتوطين
وراح فضلُ الذي يبغي مباهلتي
نعمى تعنِّيه، من بؤسي تعنيني
يا دجلةَ الخير: شكوى أمْرُها عجبٌ
إنّ الذي جئت أشكو منه يشكوني
ماذا صنعتُ بنفسي قد أحَقْتُ بها
ما لم يُحقْهُ بـ«روما» عسفُ «نيرون»
ألزمتها الجِدَّ حيثُ الناسُ هازلةٌ
والـهزلَ في موقفٍ بالجدِّ مقرون
وسُمْتُها الخسفَ أعدى ما تكون لـه
وأمنعُ الخسفَ حتى من يعاديني
ورحتُ أظمي وأسَقي من دمي زُمراً
راحت تُسقي أخا لؤمٍ وتُظميني
وقلتُ بالزهدِ أدري أنَّه عَنَتٌ
لا الزهدُ دأبي، ولا الإمساك من ديني
خَرطَ القتاد أمنّيها وقد خِلِقتْ
كيما تنامَ على وردٍ ونِسرين
حراجةٌ لو يُرى حمدٌ يرافقها
هانتْ وقد يُدَّرى خطبٌ بتهوين
لكنْ رأيتُ سِماتِ الخيرِ ضائعةً
في الشرِّ كاللثغِ بين السينِ والشين
ما أضيعَ الماسَ مصنوعاً ومتطَبِعاً
حتى لدى أهلِ تمييزٍ وتثمين
يا دجلةَ الخير: هل أبصرتِ بارقةً
ألقت بلمحٍ على شطَّيكِ مظنون؟
تلكمْ هي العمرُ ومضٌ من سنى عَدمٍ
ينصَّبُ في عَدَمٍ في الغيبِ مكنون
يا دجلة الخير: هل في الشكِّ منجلياً
حقيقةٌ دون تلميحٍ وتخمين؟
أم خولطت فيه أوهامٌ وأخيلةٌ
كما تخالطت الألوانُ في الجُون
أكاد أخرج من جلدي إذا اضطربت
هواجسٌ بين إيقانٍ وتظنين
أقول لو كنزُ قارونٍ وقد عَلِمَتْ
كفَّايَ أن ليس يُجدي كنزُ قارون
أقول: ما كنزُ قارون، فيدمَغُني
أنَّ الخَصاصةَ من بعض السراطين
أقول: ليت كفافاً والكفافُ به
رُحبُ الحياةِ، وأقواتُ المساجين
أقولُهنَّ وعندي علمُ ذي ثِقةٍ
أنْ ليس يُؤخَذَ علمٌ بالأظانين
وإنَّما هي نفسٌ همُّ صاحبها
أنْ لا تُصدِّقَ مدحوضَ البراهين
لم يوهب الفكرُ قانوناً يُحصِّنه
من الظنونِ، ومن سُخف القوانين
يا نازحَ الدارِ ناغِ العُودَ ثانيةً
وجُسَّ أوتارُه بالرِفْقِ واللين
لعلَ نجوى تُداوي حرَّ أفئدة
فيها الحزازاتُ تَغلي كالبراكين
وعلَّ عقبى مناغاةٍ مُخفِّقةً
حمّى عناتر «صفينِ» و«حطين»
ويا صدى ذكرياتٍ يستثرن دمي
بهِزّةٍ جمَةِ الألوان تعروني
أشكو المرارةَ من إعناتِ جامحةٍ
منها إلى سمحةٍ برٍّ فتُشكيني
مثلَ الضرائرِ هذي لا تطاوعني
فأستريحُ إلى هذي فتُؤويني
ويا مَقيلاً على غربيِّها أبداً
ذكراهُ تَعطِفُ من عودي وتَلويني
عُشُّ الأهازيجِ من سَجعي يُردِّدها
سجعُ الحَمامِ وترجيعُ الطواحين
وسِدْرةٌ نبعُها خضْدٌ، وساقيةٌ
وباسقُ النخلِ معقوفُ العراجين
ومُسْتَدقُّ صخورٍ من مآبرها
رؤًى تَظَلُّ على الحالينِ تُشجيني
من أنمل الغِيد في حسنٍ تُتمِّمه
فإنْ تعرَّتْ قمن أنياب تنِّين
يا مجمعَ الشملِ من صحبٍ فُجعتُ به
وآخرٍ رُحْتُ أبلوه ويبلوني
ويا نسائمَ إصباحٍ تصفِّقُ لي
ندى الغصون بليلاتٍ وتَسقيني
ويا رؤى أُصُلٍ نشوى تراوحني
ويا سنا شفقٍ حلوٍ يُغاديني
ويا مَداحةَ رملٍ في مَخاضتها
راحت أُصيبيةٌ تلـهو فتُلـهيني
وضجَّةٌ من عصافيرٍ بها فَزعُ
على أكِنَّتِها بين الأفانين
ومنطقٌ ليس بالفصحى فتفهمُه
يوماً وما هو من حسٍ بملحون
وأنت يا دجلة الخيرات سِعْليةٌ
قرعاء نافجةُ الحضنينِ تعلوني
لا ضيرَ كلُّ أخي عُشٍّ مفارقُه
وأيُّ عُشٍّ من البازي بمأمون!
ويا ضجِيعَي كرًى أعمى يلفُّهما
لفَّ الحبيبين في مطمورةٍ دُون
حسبي وحسبُكما من فرقةٍ وجوًى
بلاعجٍ ضَرِمٍ كالْجمرِ يَكويني
لم أعْدُ أبوابَ ستينٍ، وأحسبني
هِمَّاً وقفتُ على أبواب تسعين
يا صاحبيَّ إذا أبصرت طيفَكما
يمشي إليِّ على مَهلٍ يحييني
أطبقتُ جَفناً على جَفنٍ لأبصُرَه
حتى كأنَّ بريقَ الموتِ يُعشيني
إنِّي شَمِمُتُ ثرًى عفناً يضمُّكما
وفي لُهاثيَ منه عِطرُ «دارين»
بنوةً وإخاءً حلفَ ذي ولَعٍ
بتربةٍ في الغد الداني تغطيني
لقد وَدِدْتُ وأسرابُ المنى خُدعُّ
لو تَسلمان وأنِّ الموت يطويني
قد مِتُّ سبعينَ موتاً بعد يومِكما
يا ذلَّ من يشتري موتاً بسبعين
لم أقوَ صبراً على شجوٍ يرمِّضُني
حرَّانَ في قفصِ الأضلاعِ مسجون
تصعدتْ آهِ من تلقاء فطرتها
وأردفت آهةٌ أُخرى بآمين
ودبَّ في القلبِ من تأمورِه ضرمٌ
ما انفكَّ يُثلج صدري حين يُصليني