الحمد لله على الدوام، والشكر له على كل حال، نحمده حمد المنيبين وشكر الواصلين، وهو خير من أعطى وتاب، على كل عبد أواب، دعاه وسأله في الكرب والنوائب، فما كان منه سبحانه وتعالى إلا أن أجاب، وأصلي وأسلم على خير البرية، سيدنا وحبيبنا وشفيعنا ومعلمنا محمد رسول الهدى، أفضلَ من علم الورى التوحيد والوحدانية، فاللهم صل عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين. أما بعد:
في لحظة من اللحظات مرت على الأمة الإسلامية في شعبان..
يُمْهَلُ فيه التائهون في هذه الدنيا الدسيسة، علهم يتداركون أيامه النفيسة؟
وأي معدن نفيس كنته يا شعبان؟
تأتي في السَنةِ مطلاً على نوافذ الكرام رغم أنهم قلةٌ من يرونك بقلوبهم لا بأبصارهم.
فكثير منهم من يرقبونك، ولكنهم ترفعوا عن ميزاتك الرفيعة، التي خصك الرحمن جل جلاله فيها، بل إن الشرع الأغر أنصفك على لسان الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى..
روى النسائي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم)).
يذكر الناس في هذه الدنيا شهر رمضان على أنه شهر الاستقامة والإنابة والاِعتدال، تزاحمت الوفود فيه يتهامسون، واجتمع المتتبعون على أبوابه يتساءلون، منهم من تلونت أخاديده واصفر محياه، وكأن المقتصد أتى لمعاقبة المقصرين في جنب الله والذين امتلأت بطونهم بشهوات الدنيا وملذاتها..
أتى ليعيدهم إلى الطريق، وناداهم جميعا أن جاء وقت الاِلتزام فليمسك كل منكم جوارحه وأعضائه دون قيد أوشرط، وليحفظ البطن وما حوى وليذكر الموت والبلى، أو كما جاء في الحديث..
أتراك يا شعبان قد حزت النصف منه، وبالنصف الآخر أكملت حِلق الوصل بين العبد وربه، وطوعت النفس لإرضاء خالقها، وهذبتها بمزية منك وروضتها..
روضتها؟ لتكون أناة الحلم روضة صفية، وطلعة بهية، عند كل مسلم ومسلمة..
روى ابن ماجة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن)) حديث حسن.
في شعبان يبحث كل بشري عن نفسه، يتأهب من خلاله لتجاوز هذا الجسر الشاهق إلى آخر رمق، ويستعد لإطلاق موجات على راداره (أي شعبان) إن صح التعبير، يريد أن يستجمع قواه، ويلتقط أنفاسه في أحسن الأحوال وأجملها.
إن الحديث عن شعبان له رؤية مباركة، شأنه شأن كل شهر في مواسم الخيرات كلها وكل له خاصته، فمن عَظَمَ جميعها، عظُمَ وارتفع..
لقوله تعالى: ï´؟ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ ï´¾ [التوبة: 36] التوبة.
مضى رجب وما أحسنت فيه
وهذا شهر شعبان المبارك
فيا من ضيع الأوقات جهلا
بحرمتها أفق واحذر بوارك
فسوف تفارق اللذات قهرا
ويخلى الموت قهرا منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا
بتوبة مخلص واجعل مدارك
على طلب السلامة من جحيم
فخير ذوي الجرائم من تدارك
لكني أحببت أن أقف عند هذا الشهر بالذات وقفة مؤمل وأقول فيه "
فيك يشرع الناس لاستقبال مَن بعدك، فهذا كفيل بأنك جئت مشرعاً..
فيك ]تَشرَدُ] النفوس وتتصعد الأفئدة، وتتخافق الأرجل خفقاناً لكونك مهذِباً..
فيك يقترب الأنام من ربهم تمهيداً وتحضيراً لموسم العبادة بما شاءوا، فهذا دليل على أنك جئت مقرباً..
قال بعض أهل العلم "فكما أننا نُصلي سُنّةً قبليّةً تمهيداً للفريضة الأساسية ونُصلي سُنّةً بعديةً ترميماً لِما فاتنا في الفريضة فكأنَ السُنّةَ القبليّة تمهيدٌ وإعداد والسُنّةَ البعديّةَ ترميمٌ وتلافٍ للنقص..
قال تعالى في محكم التنزيل: (( وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه)) الأعراف.
وفيك يلتحق الناس بركبِ المسبحين في ظلاله وفي معارجِ القبول ومراتع الخير (وهي المساجد) فهذا حقيقٌ بأنك جئت مُصوِباً..
ومن جميع ما ذكرنا بقدومك مشرعاً ومهذباً ومقرباً ومصوباً...
أن جُعِلَتْ منك هذه المزايا مدرسةً تأهيليةً تجمعُ كلَ الأسسِ القويمة والدعائم المستقيمة لعبور آمن، إلى رحاب رمضان ونفحاته..
قال تعالى في كتابه ((ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)) الآية من سورة الشمس.
أي عباد الله، هذا الممر أيضاً.. هو بمثابةِ بطاقةِ هويةٍ تُعرِبُ بها عن نفسك أيها المسلم، ومدى استعدادك الكاملِ لما سيأتي بعده..
فحريٌّ بك إذن أن تختلي بنفسك كرات ومرات كثيرة، وتقفَ وقفة محاسبة قبل أن يَصدُر أمر الله فيك، وتسألها ثم تقرر مصيرك، وتحدد أهدافك المستقبلية وسقف طموحاتك الأولية وأين تريد التواجد فيهما؟
أفي سلك عباد الرحمن؟ أم في سلك العصاة والمقصرين؟؟.
هيهات هيهات لمن فاته شعبان ولم يستفق من سباته، فإنه ولا حول ولا قوة إلا بالله، سيترك زمامه لهوى نفسه، ويكونَ خاضعًا لسلطانها وهادما لقرباته، يوم لا ينفع نفسًا ايمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا..
نسال الله أن يرشدنا لمعالي الخيرات،
لا إلى معاول الشر،
ونسأله سبحانه أن يديم علينا الصحة والعافية لإدراك ما فاتنا وما أمكن لنا،
لعل الله يغفر لنا تقصيرنا
وإسرافنا في أمرنا إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين